أقرأ هذه الأيام مخطوطة رواية «على أبواب بغداد» للصديق السينمائي والأديب قاسم حول، وهي رواية ستصدر قريبا عن دار «نقوش عربية» بتونس. في مقدمة هذه الرواية ذكر المؤلف أنها رواية (ذات نكهة وثائقية) وأجد أن هناك فرقا بين أن يذكر أنها رواية وثائقية أو ذات نكهة وثائقية، كيف؟ أرى ان (ذات نكهة) أبعدها عن التفاصيل ليضعنا أمام الخطوط العامة المستمدة من واقع الأحداث التي جرت للعراق منذ دخول القوات البرية الأمريكية لأرضه من الجنوب وحتى استكمال احتلال بغداد.
ولكنه في جوانب أخرى أعطى لخياله مساحته في التحليق، يقترب أو يبتعد من الواقع اليومي، لكن المسار هو الصحيح، هناك مصور تلفزي أوفدته الفضائية الرسمية العراقية ولم تكن هناك فضائية أخرى عداها الى البصرة ليصور ما يجري حتى يتم بثه بعد ذلك.
وثّق الكاتب لحوادث رأيناها حتى في محطات التلفزة العربية والعالمية مثل اسقاط تمثال الرئيس وقتها في ساحة الفردوس، أو ظهور الرئيس وقتذاك مع بعض أنصاره في الأعظمية.
لكن حجم المتخيل الذي عبأ به المؤلف تفاصيل روايته كان أكبر، وسننتظر صدور الرواية لنقرأها وربما نعرضها في هذه الزاوية. لكنني وأنا أقرأ رواية الصديق قاسم حول تذكرت ما كتبه أحد الأخوة عن رواية الكاتب المغربي المعروف طاهر بن جلون وهي رواية جديدة له حول الثورة التونسية، والمؤاخذات مثل كيف جعل من البوعزيزي خريج جامعة، وكيف اشترى عربة الخضروات أو أن في سيدي بوزيد عمارات الى آخره.
هذا الذي قرأته يثير الاستغراب لأن الروائي أي روائي عندما يستلهم أحداثا معينة فإن عمله حتى وان انطلق من وقائع حصلت فإنه يمتلك حق الذهاب بخياله بعيدا، وأنه سيتصرف بالشخصية وفق ما يريده حتى يحقق فيها الاقناع اذ أنه رأى على سبيل المثال ان تحويل البوعزيزي من بائع لا يمتلك شهادة البكالوريا كما هو على حد علمي الى خريج عاطل سيكون أكثر اقناعا وأقوى تأثيرا في الفعل وردة الفعل، وبالتالي يمضي أبعد في اعطاء مسوغات اقدامه على حرق نفسه احتجاجا، وسيظل هذا العمل حالة واحدة ووحيدة، وكل تكرار له لا يؤدي المعنى المطلوب ولا يمضي الى الغاية نفسها.
وليس بن جلون وحده من بهره ما جرى في ثورة تونس فمن المؤكد أن هناك كتّابا آخرين كان امتيازه عليهم أنه انجز عمله وقدمه للقرّاء، ولا أدري ماذا كان الرأي النقدي بروايته البوعزيزية اذ أن البحث سيكون عن الكتابة الروائية وليس عن تصرفه بالأحداث ما دام لم يبحث عن الكتابة الوثائقية حول ما جرى فهذه مسألة مختلفة، وكثير من الروايات الوثائقية رغم ما تتوفر عليه من صدقية تظل أعمالا لا قيمة ابداعية لها اذ الاحتكام لا يكون الى كمّ الصدق والتطابق مع الواقع بل الى فنية الرواية وما أضافته. وبعيد احتلال العراق قرأت عملا روائيا ترجم عن الفرنسية للكاتب الجزائري ياسمينة خضرة استحضر فيه هذا الحدث الجلل مع الأسف لم أتذكر الآن عنوان هذه الرواية لكن المتخيّل هو محور هذا العمل المكتوب بإتقان، من يقرأه لا يبحث حجم الصدق فيه، بل يتمتع بقوة السرد فيه، لكن هذا القارئ لاينتابه الشك بأن ما قرأه ليس أبعد عن الواقع ولا هو امعان في الخيال، بل هو ينتمي الى ما يمكنني أن أسميه «الخيال الممكن» أو «الواقع المتخيل» لأنني واثق ان ياسمينة خضرة لم يزر العراق، ولكنه تابع الاحداث وحللها بعين العسكري الذي كانه.
وعلى العكس منه بن جلون الذي يعرف تونس وقبل هذا استمد عملا روائيا له من سجون المغرب التي دخلها المثقفون والسياسيون مثل «تازمارت»... وهنا تحضرني واحدة من أبرز الأعمال الروائية العالمية وهي «الرباعية الاسكندرانيه» للكاتب الايرلندي الذي عاش في مصر دبلوماسيا هو لورنس داريل. حيث نقل أشهر محلات اللهو والبغاء في قاهرة أوائل القرن الماضي المسمى «كلوت بك» أو «كلوت باشا» الى الاسكندرية.
وتصرف محدثكم في شخصية بطل روايته «خطوط الطول خطوط العرض» غياث داود فجعله يعمل في منظمة أممية كان مقرها بيروت ثم تحولت أثناء الحرب الى عمان، ولم يقل لي أحد أنه لا وجود لموظف بهذه المواصفات في تلك المنظمة.
وأخذ الشاعر حسن نجمي حريته في ايجاد علاقة بين محمد الطنجاوي والكاتبة الأمريكية جرترود شتاين ولم يقل له أحد أن لا وجود لشخص بهذا الاسم في حياة (جرترود) وهو اسم الرواية.
ان الرواية بناء متخيل فيه نصيب من الواقع يصغر أو يكبر هذا يقرره الروائي، وعندما نحاسبه نقديا فإن ذلك سيتم خارج حجم الواقع أو حجم الخيال في عمله. الرواية بناء فني حر، هكذا أراه، وهكذا أفهمه. هناك سينمائي أمريكي جاء بشخص ملون يمثل دور المسيح، هكذا أراده رغم أن كل الروايات تقول بأن المسيح بعيد عن هذا.