في الصحراء الكبرى نجح الهادي فريجة مع أهله في بناء قرية صغيرة وواحة تتحدى قسوة الرمال ولم يتخل يوما عن انتمائه للثقافة الوطنية التقدمية. تخليدا لذكرى صديقه الشاعر بلقاسم اليعقوبي أصدر الشاعر الهادي فريجة الذي يقيم في قرية «بشني» من معتمدية الفوار على أبواب الصحراء الكبرى المجموعة الشعرية «الأيام فراقة» في حركة نبيلة قل نظيرها .
والهادي فريجة مناضل في اتحاد الشغل والرابطة التونسية لحقوق الانسان وتحمل مسؤوليات في اتحاد الفلاحين وهو مهووس بالشعر وبالفلاحة على حد السواء مما يجعله ظاهرة فريدة في المشهد الثقافي . الشروق إلتقته في هذا الحوار.
لماذا أصدرت هذا الكتاب؟
هذا الكتاب هو عربون محبة ووفاء لصديق ورفيق درب مات دون أن أودعه ودون أن أقرأ وصيته. لقد مات بلقاسم في ظروف غامضة وتشتت كتاباته بين أصدقائه وعائلته لذلك قررت أن أنقذ ما يمكن إنقاذه بإصدار ديوان «ليام فراقه» هذا الديوان هو ملامسة أولى لتراث بلقاسم أرجوا أن تتلوها محاولات أخرى تجمع أعماله الكاملة.
كيف تقرأ حضور بلقاسم في المدونة الشعرية الشعبية خاصة؟
يعتبر حضور بلقاسم في المدونة الشعرية الشعبية التونسية حضورا مختلفا عن بقية التجارب. فبلقاسم تمرد على السائد شكلا ومضمونا ولم يلتزم بموازين الشعر الشعبي المعروفة فأشعار اليعقوبي كانت صرخة ضد السائد وضد الظلم والاستعمار القديم والجديد ولم يكن يقبل تسميته بشاعر شعبي لأن الشعر الشعبي كان عنوانا للعكاظيات ولقافلة تسير معتبرا أن العامية ليست عاقرا وبإمكانها حمل أمال الشعوب نحو عالم أنبل وأجمل مبديا إعجابه بتجربة الشاعر أحمد فؤاد نجم. إن تجربة بلقاسم اليعقوبي أصبحت نبراسا يهتدي به الكثير من الشعراء الذين ساروا في طريقه مثل الطيب بوعلاق وأيوب بن مسعود القادم على مهل في المشهد الشعري التونسي الجديد
إرتبط إسم بلقاسم باليسار التونسي فإلى أي حد تعتقد أن اليسار ظلم اليعقوبي حيا ولم ينصفه ميتا؟
كان اليعقوبي يساريا في تفكيره، يساريا في رسومه، يساريا في أشعاره منحازا لقضايا شعبه فكتب عن العمال والفلاحين وتغنى بأمجاد حركة فيفري الطلابية المجيدة وغنى ل 26 جانفي ولثورة الخبزوللطلبة المجندين برجيم معتوق وللقدس ولبيروت وكل قضايا التحرر وكل الثورات الوطنية الديمقراطية وأعلن عن تموقعه داخل الخط الوطني الديمقراطي قائلا:
وطني ديمقراطي ... اتوسد ذراعك لو كان هذا شورك ... حفر قبورك هكه ارتضي الدستور ... يهدم صورك
بالنسبة لسؤالك هل أن اليسار ظلم اليعقوبي حيا أو ميتا؟
لقد حاول رفاقه في الخط الوطني الديمقراطي تخليد ذكراه وتقديمه للجيل الجديد لكنهم اصطدموا بسلطة جائرة وظالمة لا تقدر المبدعين أما اكبر مظلمة تعرض لها بلقاسم فهي ضياع الكثير من لوحاته وضياع مكتبته التي اختفت علما أن الكثير من أصحابه اليساريين لم يحاولوا مجرد السؤال عن بناته اليتيمات ولتخليد ذكراه نحن الآن بصدد تكوين جمعية بلقاسم اليعقوبي للشعر النضالي ومقرها بدوز لتبحث في تراثه وتراث غيره من الشعراء الذين انحازوا لقضايا شعبهم وقضايا الإنسانية وكتبوا ضد الظلم والاستعمار المباشر والجديد.
بعد 14 جانفي ظهرت وجوه جديدة لم يكن لها أي حضور سابقا لا مع السلطة ولا ضدها تحاول السيطرة على المشهد الثقافي باقصاء الآخرين فهل يكفي أن تكون غاضبا لتكون مثقفا؟
إن المثقف الحقيقي هو الذي يعيش داخل مجتمعه ويرصد حركته ويتماهى مع أحلامه ويحلم بعالم أحسن ويكون مثقفا عضويا عندما ينتصر لشعبه وينتصر للشعوب المظلومة والطبقات الفقيرة المعدمة أما الذين ظهروا بعد 14 جانفي فأولى بهم أن يخجلوا من صمتهم سنينا وأن يعتذروا لهذا الشعب.
أي ثقافة ننشدها الآن؟ نحن ننشد ثقافة تحفز روح الإبداع الثقافي والفني في مختلف المجالات وتكرس التوجهات الوطنية الديمقراطية والتقدمية وتقطع مع مظاهر التهميش والتغريب والميوعة وتتصدى للفكر الظلامي وتنتصر للحرية نحن ننشد مسرحا والسينما في كل مدينة وننشد مكتبة في كل بيت وكتابا في متناول الجميع ومهرجانات متصالحة مع تراثها وتاريخها. أنت فلاح وشاعر وباحث في التراث الشعبي وحقوقي كيف توفق بين كل هذا؟
بالنسبة للفلاحة أنا اعتبر اشتغالي بالفلاحة نوعا من الرجوع إلى الجذور فهذه الأرض تركها الأجداد منذ قرون وتفرقوا في مدن الجنوب الغربي هربا من سنين القحط والمجاعة وعدنا إليها وزرعناها وأعدنا إليها الحياة في ملحمة تصلح أن تكون مادة لرواية أو شريط سينمائي أنا أحس برائحة الأجداد تنبعث بين أشجار النخيل وأتعامل معها تعامل العاشق الذي يشعر بالانتماء إلى مكان ما «لكن العالم أرحب» كما يقول شاعرنا الخالد مختار اللغماني. بالنسبة للتوفيق بين كل هذا فالمسألة تبقى نسبية لكن المهم أن تكون محبا لما تقوم به.