يقول لينين معلّم البروليتاريا «ليس المهمّ رأينا في العمل الفني أو الابداعي ولا ما يقدّمه لعدّة مئات من الناس ولا حتى بضعة آلاف وإنّما المهمّ كيف يقدّم الفنّ خدمته لمجموع الشعب. لذا يتوجّب على الفن الحقيقي ان يغرس جذوره عميقا ضمن الكتلة الشعبية العريضة، يجب ان يكون الفنان مفهوما من قبل الجماهير ومحبّبا اليها يجب ان يوحد بأعماله الإبداعية / الواقعية مجمل أحاسيس الناس وأفكارهم ورغباتهم. يجب ان يبعث الفنّ فنانين جددا كل يوم، الفنّ لجميع الشعب، وهل يجوز لنا أن نقدّم لأقليّة من الناس البسكويت الحلو في حين أنّ العمال والجماهير الفلاحية بحاجة لمجرّد الخبز الأسود؟ أنا لست أعني ذلك بالمعنى الحرفي المباشر وإنّما بالمعنى المجازي للكلمة. والهدف يجب ان يكون أبدا هو مصالح العمال والفلاحين». وهذا هو بالفعل ما سعى له بلقاسم اليعقوبي من خلال أشعاره ومن خلال تكوينه او مساهمته في بعث أغلب المجموعات الموسيقية الملتزمة في بداية الثمانينيات ومن خلال مساهماته الثقافية المتميزة في مختلف الفضاءات ومع مختلف الهياكل. بعض هذا الكلام عن بلقاسم له في خاطري عشرون سنة وبعض تفجّر اليوم في ذكرى وفاته الثامنة. وخاطري من هذا وذاك امتلأ بذكريات تهدهد الوجود فماذا أقول؟ إذا كان بعض أشباه المبدعين يحتاجون الى أشباه نقاد ليصبحوا أسطورة فبلقاسم لا يحتاج من يضع له الاصباغ فماذا أقول؟ لا يمكن لي إلا أن أردّد ما قاله الشاعر «محمد العجيمي» حول هذا الموضوع: «لا أعرف لماذا بالضبط يسعى العديد من كتّاب الكلمات الرديئة المتكلّسين إقناعنا بأنّه لا يجوز الإنحياز في كتابة الشعر ونسوا أنّهم ذلك منحازون للجمود ودورهم الأساسي الذي أوكلته لهم طبقتهم هو مقاومة الجمال. طيّب! نحن متنازلون لهم عن هذه المكانة غير اللائقة لأنّها مريحة لمثلهم وإنّنا إخترنا بمحض إرادتنا وبدافع انتمائنا فرضا وسنّة للطبقة المقابلة أن نفتكّ بأظافرنا وبرموش عيوننا المساحات المحرّمة في عقول أبناء شعبنا». هكذا عرفت الجماهير العمالية والطلابية بلقاسم اليعقوبي، هذا الصوت الشعري المميّز فأحبّته لأنّها عرفت فيه صوتها لأنّه ليس بشاعر بلاط ولا بشاعر صالونات إنّه شاعر العمال والفلاحين، شاعر الطلبة والتلاميذ، شاعر المضطهدين والمحرومين. شعره يغمرك بفيض من الحب، حب الأرض المعطاء، يكتسحك كالحلم، حلم الحريّة الكاملة ويلفّك بطيف، طيف الكرامة الوطنية. في زمن القحط هذا، أهدى حياتنا وردة حمراء، نسج حناجرنا صوتا مدويا وسافر بيننا يزرع الرفض والامل في وقت معا فماذا عساني اضيف الى مداه الممتدّ بمساحة كل الاحلام؟ لا شيء غير أنّه شاعر ذو قضية. رفض أن يقف على الربوة مثل كثيرين يتأمّل من بعيد ويتفلسف، رفض الإستقالة والعزلة وأصرّ على أن ينام ويعيش مع الجماهير. رمى نفسه في البحر ليكون جزءا من حركة الموج المجنون. إنّه كان منذ كان، يدا في الطين ويدا تمتدّ لغد أجمل إنّه حينما يناضل يحطّم طوفان اليأس ويبني دولة الاحلام. إذن فهذا الملاّح في شراع الخلود تسلّح بالعزيمة وخطّ على جبينه مقولة تشي غيفارا الشهيرة «الثائر لا يستقيل أبدا» وقد عبّر عن ذلك قائلا: للكاهنة هزّوا السلام الكلّه وقولوا لها مسامح زيتوني ولّى وللجازية تسوّى الشعر كي تحلّة تدهن ظفيرتها سواد الليل حنا زيتنا يسفر عقاب الليل يطوف البحر الميل بعد الميل يا بن غذاهم ولّوا جنودك خيل ولّى الركيض صهيل كبير اللجام كبير والنّسر ولّى طير أعلى جبل في بير في القاع كل أسراره إحتل الجبال الثلج والقلب وقدت ناره اليوم شعرنا في الزير وكلامنا قصدير ما عرفت وآش ندير أيّوب ماتوا صغاره والصبر مات بعاره مشاع ولّى الموت كل حق ليه شكاره إحتل الجبل الثلج والقلب وقدت ناره ولاش تحرقوا الإعصار يا سمساره ما ماتشي ما ماتشي ما ماتشي غيفارة فهل هناك شاعر يمكن ان يربط بين الكاهنة وغيفارا غير بلقاسم؟ إنّه الربط الواعي بين من تمسّك بالمقاومة كخيار رغم اختلاف الزّمان والمكان وهو إيحاء أيضا لرفض الهزيمة والخنوع والاستسلام. هذا البلبل الصدّاح، ذاك السيل الجارف والساعد الذي لا يكلّ والقلب المفعم بحب الفقراء الذي دفن في قبر الحب حيّا، ولد ذات صيف من سنة1956 بقرية دوز من أب فقير كان يبيع قوت عمله الى الإقطاعيين ملاكي النخيل مقابل حفنة من التمر. عاش الفتى بلقاسم في فقر وخصاصة عيشة سائر أبناء القرية الفقراء المعدمين. كان إبن الطبيعة ينام على هدهدة أرياحها ويستفيق على تنغاء أطيارها وكان كثير الإلتصاق بوالده يصاحبه الى عمله ناظرا بحزن الى تلك السواعد المفتولة التي تجدّ لكسب لقمة عيشها بألم وتعب وعذاب. وإضافة الى ولوع الفتى بجمال الطبيعة الساحر التي إتخذ منها أنشودة حياته ومهرجان أفراحه كان له شاغل آخر، فالمطالعة والتجوال في الصفحات المشرقة بعبير القول لشدّ ما يفوق التجوال في أحضان الطبيعة. فقد كان بلقاسم بفطرته مجبولا على التطلّع وذلك لنبوغه ولسجيّته التي كان سلطانها الخيال المجنّح والشعور الهيمان لا العقل العصيّ المتكلّس، فراحت الأفكار النيّرة تراوده والاحلام الحلوة تهدهده وبدأ وعاؤه ينضج الى أن استقرّ به المقام في أواخر السبعينيات بمدينة قابس ليلبس البدلة الزرقاء بدلة العمال، هذه الطبقة التي انتمى لها وذاب فيها. ومنذ استقراره بهذه المدينة الصناعية نرى نشاط الشباب يزداد فيه يوما بعد يوم فينخرط بلقاسم بوعي كامل في الحياة السياسية والثقافية والنقابية بل يصبح أحد العناصر الفاعلة في الساحة وذلك تجسيدا لمقولة لينين: «القضية الأدبية يجب ان تصبح جزءا من قضية البروليتاريا العامة «عجلة وصامولة» في ميكانيزم إشتراكي عظيم واحد موحّد. ميكانيزم تحرّكه كل الطليعة الواعية للطبقة العاملة كلّها». هكذا عشق بلقاسم الفكر الاحمر وحلم بالتحرّر الوطني والانعتاق الإجتماعي. أمميّته كانت أرحب من أن تشحن تفكيره وهمومه ومشاغله وأحلامه في حدود هذه الرقعة الجغرافية الضيقة فبقدر ما كان يتألم لما تتعرض له الشعوب والامم المضطهدة من إستغلال ونهب بقدر ما كانت نضالات الطبقة العاملة تبعث فيه الامل على قدرة العمال على كسر القيود وتحطيمها. كان بلقاسم عاملا كادحا ونقابيا طلائعيا ومثقفا عضويا إختار النضال ضد الغزو الثقافي الإمبريالي الرجعي الذي يعمل على تبليد الفكر وتكريس التخلف وتعطيل ملكة النقد والابداع لدى الجماهير الشعبية بل ناضل من أجل المساهمة في قيام ثقافة تقدّمية بديلة ذات الخصوصية الوطنية والبعد الأممي إذ فهم بلقاسم بأنّ الثقافة الوطنية كجملة معارف وقيم وتراث ذات طابع طبقي بالضرورة تعتبر سلاحا من أسلحة نقد السائد وهدمه وبناء البديل الثقافي وهي تلعب دورا أساسيا في تفجير الوعي لدى الجماهير الشعبية وتمكينهم من زاد نظري يمكّنهم من التصدّي الواعي للفكر الإقطاعي والثقافة الإمبريالية. المسألة الوطنية كانت حاضرة أيضا عند بلقاسم، فلسطين كانت حبّه الكبير وحلمه الأكبر. كان ردّه عنيفا حين يسمع الحديث عن الحل البرجوازي للقضية او عن الشرعية الدولية، بل كان واضحا حين يؤكد ضرورة إعادة تشكيل وعي وممارسة حركة التحرّر الوطني العربية على أساس كون الكفاح المسلّح هو الطريق الوحيد لحل التناقض الوطني الطبقي القائم بين طبقات شعبنا المضطهدة من جهة والإمبريالية الرجعية العربية من جهة اخرى بعيدا عن منطق «الشرعية الدولية» والمواثيق الولية الزائفة وكل ما يتبعها من مقولات متفسّخة لم تكن في يوم من الايام الا تقنينا حقوقيا يعبّر ويكرّس رؤى وبرامج ومصالح الامبريالية ودوائر النهب الاحتكاري العالمي في إطار تجميل ومشرعة أسس لصوصي وهيمنتها على الشعوب ومقدّراتها، وعليه كان لابد من تحديد ضوابط الشرعية الحقيقية حتّى لا تتداخل الرؤى وتطمس التناقضات الجوهرية تحت مظلّة العدوّ الإيديولوجية والسياسية فلا شرعية ولا مواثيق إلا ما كان إفرازا واعيا وحرّا لإرادة الشعوب مكرّسا مصالحها ومعبّرا عن طموحاتها من منطلقات التساوي في بناء حضارة الإنسانية التقدّمية والإنسان الحرّ من كل استيلاب واستغلال وهيمنة. هكذا إذن، يلقننا ذاك الفتى الأسمر درسا في الوفاء لروّاد ومناضلي الفكر الإشتراكي ويعلّمنا رغم صغره بل لصغره عشق الكفر بالفقر والإضطهاد والإستغلال والحقد على الصامتين والأعداء والوفاء للشّهداء الذين خطّوا بدمائهم صفحة مضيئة من تاريخ شعبنا في 26 جانفي 78 وفي 4 جانفي 84 دفاعا عن الأرض والحرية والكرامة الوطنية. غير أنّ هذه القرنفلة الحمراء التي أوجدت لنفسها مكانا زمن الشوك قطفت ذات يوم من سنة 2001 وظلّت تذبل وتذبل بسجن 9 أفريل الى أن انطفأت ثمالتها في مساء يوم قاتم مدلهم يوم 24 أفريل 2001 (اليوم العالمي للتنديد بالإمبريالية)، غير أن بريق ذاك النبراس قد حلّق في أجواء الخلود حيث «لم يمت من قضى كي تعود البلاد الى شكلها ويعيد شبابيكها مخبأ للعصافير والاغنيات». هكذا انطفأت شمعة بلقاسم بعيدا عن رفاقه وأصدقائه وبعيدا عن قريته التي عشقها فأعادت احتضانه من جديد وهي التي طالما كانت مصدر إلهام فإستقبلته رمالها الذهبية الوعساء وزفير رياحها التي تحوم في الدجنة وتغنّي للحياة السرمدية في أنشودة الخلود أمّا أشجار النخيل فقد قابلت الفتى المسجّى مشرئبّة الأعناق تتطلّع لما يجول في الغد البعيد، في هذا الجوّ الكئيب حملت الجموع الحاضرة من الرفاق والاصدقاء أحزان بلبلها وغطّته في مثواه الاخير موسّدة له زبد اللّجاج وواضعة فصدره باقة ورد حمراء من حب لا ينتهي. وأختم بهذا القصيد الذي رثى فيه بلقاسم صديقه الشاعر مختار اللغماني وها نحن نرثيه به: رثاء المختار اللغماني ذكرى أليمة على خاطرك نحيوها ذكرى أليمة وما عاد منّا ذاكر كيف نذكرك والكأس في إيدي ساكر مختار يا مختار كبرت السلّة وما عرفت ما نختار وسط القبيل يحكموا تجّار ظفار يا ظفار ريحك جاني وهذي برقية من سورنا بعثوها ظفار دوري... دوري أسيوط دوري... دوري دمشق دوري... دوري بغداد دوري... دوري طرابلس دوري... دوري قرطاج دوري... دوري وكوني عنيفة نخلتك كسروها يا قدس ثوري ثوري جيش الغزاة لترابك جابوها البترول يا لغماني رفع العمامة وفي الحضيض خلاني البترول ها الدخان ريحة جاني البترول ها الأسطول غاير جاني. الشاعر الوطني بلقاسم اليعقوبي كان واحدا من أبرز شعراء الأغنية الملتزمة في عشريتي السبعينيات والثمانينيات ويكفي أن نذكر بأنّه كتب لأغلب المجموعات الموسيقية التي كانت موجودة على الساحة (الشراع، البحث الموسيقي بقابس، آفاق، خدام حزام، أولاد المناجم...) وخلال حياته القصيرة (1956 2001) قدّم الشاعر الراحل مجموعة من الأعمال المسرحية والشعرية بل كان رساما أيضا إضافة إلى أنّه كان الوحيد الذي قدّم «المونولوغ الشعري» آخره «ملح» قدّمه سنة 1991 قبل أن يختار الإنسحاب من الحياة الثقافية. كان حاضرا بإستمرار في التظاهرات الثقافية التي ينظمها النقابيون والطلبة وأصدر شريطا بعنوان «عطش»...