قلمها يرسم بورتريه للكلمة على صفحة سيرة ظل. يبحث عن عرس الحلم بالفكرة والفكرة بالخيال والخيال بأعمق أعماق أغوار الوجود الإنساني. هي تراقص حروفها على لوحة تتشكل بيد فنانة تشكيلية لها رغبة ماردة، جامحة، رغبة متمردة على الكائن والموجود في حفل اجتماعي ملت رتق أقمشته ونزع سدادات قوارير المسكوت عنه من قبيل العتمة الشجن، الوجه والظل، الفراغ، التيه والعنف.
لعل قصة «الصخر والبحر والإلهام» لهيام الفرشيشي تشي بالكثير من الإيحاءات والإحالات على إنزياح نصي كحضور أسطورة أوليس، وتكثيف لمرارة. اغتراب واستلاب مبدعة تجد كل ما حولها عفنا مأزوما بلا ملامح مما يغذي لديها الحيرة والتساؤل بحثا عن الذات من أجل سبكها وترميمها. فتقول في قصة «الصخرة والبحر والإلهام»: «كيف يجدون طريقهم إلى الإبداع بين روائح البول والسمك النتن وبقايا الأطعمة المنبعثة من القمامة التي ما انفكت القطط تنبشها ليلا نهارا؟» ص37.
ترتحل الكاتبة في هذه القصة عبر كبسولة الزمن في ومضة ورائية إلى ماضيها تدفع بها بقوة كرة المضرب إلى مستقبلها لتعود الهوينى إلى حاضرها راكبة صوت الريحان، ضبابية الغيوم ووميض البروق. متدثرة بإيزار خيوطه من تاريخ تبحث عنه وفلسفة تصدع قرارها وأدب يبحث عن مستقر له. حيث ترك البطل «كتب التاريخ والفلسفة والأدب تنام على طاولته الهرمة وأغمض عينيه وهو يتخيل أوليس ناشف الريق وهو يرتد من شاطئ إلى آخر دون أن ترتسم أمامه ملامح الطريق، فهو مثقل الخطى، متوتر الأعصاب، خائر القوى»ص38.
هيام ب «المشهد والظل» هامت بذائقة المتقبل والقارئ. قأتقنت لعبة الغميضة لتظهر وتختفي كما يحلو لها بحنايا الذاكرة وجرح الآمال الغائر في كثبان رمال متحركة. هي تمارس العنف أحيانا على أبطالها لينتحر العم عمرو، ولينتحر زياد الرافعي هاربا من الضياع والفقد واللاجدوى. يعيش مع زوجته، ولكن» حياتهما رتيبة إذ لم ينجبا أطفالا» ص143. وتواصل هيام الفرشيشي التعبير عن حالة الضياع والتشظي بإحالة أبطالها على الجنون والإقصاء والتهميش الاجتماعي والفكري في قصة «خطوات القط الأسود «إذ تعبث بأبطالها كما» تعبث الريح بأوراق الأشجار» ص17، لتشرع نوافذ روحها وفكرها على إطار الوساوس والخوف والمخيال الاجتماعي. رهبة من القط الأسود تهرب منه هدى إلى قرطاج القديمة بحثا عن والدتها رمز الطمأنينة والسكينة والأمان.
تعود هدى لتجد القط الأسود في هيئة شاب يغريها بكأسه فتثمل بعدما هيأت كل الظروف للحدث كما تراءى لها حيث تساءلت: «هل أراد القط الأسود كل من في المنزل ليخلو له؟ ص32» .
هيام الفرشيشي تمتهن الحلم بامتياز في قصصها عبر عملية الاستبطان لمدارج الذكرى في كهوف الجسد المقبور بفج الشائك شبيه بغابة تعيش فيها الأفاعي، الثعابين وتسكنه الحيوانات المتوحشة» مرآة عابسة في وجوه الدمبو والرموز المتخشبة. تهرع إلى قرطاج وكركوان والهوارية مرتع صبا الكاتبة من الشر الذي قد يلحق بالناس إن في الهروب إلى الطفولة بحثا عن الخلاص والانعتاق.
أغلب شخصيات المجموعة شخصيات أسطورية أو شخصيات ورقية اختطفتها الكاتبة من بين طيات الكتب النائمة في أكوام الغبار، حولت وجهتها، آوتها، أطعمتها،وسقتها، أعطتها حياة ووجودا، فضاء اجتماعيا جديدا لتتحرك فيه وكأنها تبعث بعد موت، توجد بعد نسيان. غزت الذاكرة وشحنت القلب ودغدغت الفكرة لتضع حمولتها بين يدي القارئ في بوابات الانعكاس على المرآة.عملية احتفال تناصي بامتياز أخصب الأحداث برؤى ومواقف ورسائل عاجلة إلى ذهن القارئ.
النص رحم تنمو فيه وتتناسل المؤثرات. واللغة في «المشهد والظل»، «نسق من الإشارات يعبر عن الأفكار»(2) فهي لغة حبلى بالمعاني تسير بطرق مهينة مهندسة وواضحة الخرائط وليست مجانية أو اعتباطية أو مجرد بهرج وتأثيث للنص.
فهي لغة مأزومة وحالمة في الوقت نفسه، ثائرة كما عواصف الخريف، هادئة كما نسمة صيف وهي جنائن ربيع تمرح فيها الفراشات وتزهر فيها الورود. وهي جحيم من الرعب والخوف. لغة تنشد التغيير الاجتماعي في مناشدة للأفضل والأنجع ومحاربة كل ما هو مشوه للواقع وجمالية الطبيعة. بمشهد القط الأسود الممسوخ شابا ومصيره. هذا يذكرنا ب»هذه الذات الممسوخة هي إنسان العصر الراهن الذي يعيش الظلم والفوضى والجنس والجوع وحصار العولمة الذي تنعكس مرآته على نصه لتشكل المشهد الجنائزي الذي تمر به البشرية اليوم»(3).
فالكاتبة استطاعت أن تحترف»النوع الأدبي القادر على أن يمسك بحقيقة الأزمة التي يعيشها الإنسان العربي المعاصر في ظل الهزيمة والقهر والتدهور على كافة المستويات»(4) عبد المنعم عبد العظيم / الحوار المتمدن/ العدد 2687 /2009 شادية شقروش عن ابراهيم الدرغوثي منجزه السردي، الحياة الثقافية العدد159 ،ص5