المشهد السياسي في تونس بحاجة الى توازن، هذا ما دأبت على ترديده العديد من القوى السياسية، سواء منها المنتظمة حزبيا أو التي يعبّر عنها بالشخصيات الوطنية المستقلّة «Electron libre». حزب حركة النهضة الذي يقود الائتلاف الحاكم، توخّى سياسة مفادها أنه حزب أغلبي، انتخبه الشعب، وبالتالي فإن ذاك المعطى الذي أفرزه صندوق يوم الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي، هو المبرّر الذي يمكّن «حزب حركة النهضة» من أن يدخل في عملية اصلاحات وتعيينات مفصلية في الدولة ودواليب الحكم...
وقد ذهب الظنّ بالسلطة الجديدة، أنّها، وبحيازتها للأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي، بامكانها أن تقدّ القوانين كما ترى هي ذلك... هذا ما أسرّ به ل «الشروق» أحد المتابعين للشأن السياسي من الباحثين في مجال القانون، وهو شخصية باحثة علمية ليس لها انتماء سياسي حزبي يذكر...
ويذهب المتابعون للشأن السياسي في تونس، من التونسيين والأجانب، الى القول إن بلادنا تقف في مفترق، يحيق به الغموض من كل جانب... ذلك أن السؤال الذي يتردّد على ألسنة «العامة» و«الخاصة» هو نفسه: الى أين نسير؟
ائتلاف رخو...
حزب حركة النهضة الذي يقود الائتلاف كما الحكومة، هو وحده الذي بقي متماسكا ومزروعا في كامل تراب الجمهورية، بينما يشهد حزبا المؤتمر (حزب الرئيس) والتكتل (حزب رئيس المجلس التأسيسي) تجاذبات داخلية وصلت بحزب المؤتمر حد التصدّع والانشقاق... ولئن اتّجه بعض المراقبين الى الاعتقاد، بأن هذه التصدّعات، إنما هي في صالح حزب حركة النهضة، حتى لا نصل بالقول إنها قد تكون من صنيعة الحزب الاقوى في السلطة، أسوة بما أمكن لنظامي بورقيبة وبن علي إتيانه، عبر أجهزة مختصة، صلب أحزاب رفعت راية المعارضة في وجه حزبيهما (الحزب الدستوري والتجمّع)، لئن اتّجه البعض صوب هذا التحليل، فإن بعض السياسيين من المحنّكين في الحكم والمعروفين بخطّهم «البراغماتي» (الواقعية السياسية) يرون أن النهضة كحزب يقود إئتلاف الحكم، سواء كان وراء موجة الانشقاقات والتصدّعات التي يشهدها الحزبان المذكوران، أو كانت النهضة على غير وعي بهذا الأمر، فإن الواقعية السياسية تقتضي قراءة الأحداث واستشراف الوقائع السياسية، عوض الغوص في أسئلة استنطاق بوليسي لوقائع، قد يأخذ البحث فيها وقتا، يكون الحزب الذي يتهيأ للبقاء في الحكم عبر الانتخابات بالطبع في غنى عنها...
ويرى هؤلاء المحلّلون، أن حزب حركة النهضة ومن خلال بعض المؤشرات والمستجدات على الساحة السياسية، من مصلحته أن يبدأ عملية بحث وتأسيس «ترويكا» جديدة، أو ائتلاف جديد قد يمتدّ الى أربعة أطراف سياسية...
ولئن يرى بعض المتابعين للشأن السياسي التونسي، أن الائتلاف الذي يؤمّن السلطة المؤقّتة اليوم، هو ائتلاف رخو، لا يمكن أن يصمد أمام خيارات واستحقاقات قادمة وتتطلّبها تونس، مثل اصلاح التعليم والاعلان عن الخيارات الاقتصادية الواضحة والمواتية بل والملائمة للبلاد. كما أنه ائتلاف فيه نوع من القفز على المهام غير الموكلة للطرف القافز عليها..
فمثلا شهدنا كيف أن تداخلا واضحا شاب اختصاصات الرئيس المؤقت للجمهورية مع اختصاصات رئيس الوزراء المؤقت.. كما أن «القصبة» وفي عديد المناسبات أبدت تبرّمها من تصريحات ومواقف وتحرّكات صدرت عن «قرطاج».. سواء كان ذلك يهم الشأن الوطني أو الشأن العربي أو الدولي..
قد تكون «القشة التي قصمت ظهر البعير» تلك الصور التي طالعت التونسيين في أفريل المنقضي، والتي قبل بموجبها «مواطنان» يد رئيس الجمهورية.. وقد تكون القطرة التي أفاضت الكأس وأنبأت بقطيعة ما، بين المرزوقي والجبالي، حين طالب نائب في المجلس التأسيسي عقب الحادثة، الرئيس بالاعتذار للشعب، فما كان من رئيس المجلس (طرف في الترويكا) إلا أن أجابه باحتشام أن الأمر ليس صلب الموضوع.. في حين ركزت «الكاميرا» على رئيس الحكومة، الذي أطلق بسمة أو نصف ضحكة، قد تفسرها تطورات القادم من الأيام.. قائد السبسي.. العدوّ الصديق..
عند مغادرته مقرّ الحكومة، لدى انتهاء مهامه على رأس الحكومة، أسرّ قائد السبسي إلى الحكام الجدد، ممثلين في حزب النهضة أساسا، إلى أنه من صالح الحكومة القادمة التي سيقودونها ومن مصلحة البلاد، أن تضمّ التشكيلة الجديدة للحكومة، وزراء عملوا مع قائد السبسي، حتى يضمن الفريق الجديد الخبرة والمهنية والانتقال بأكثر يسر مما هو ماثل الآن، من الفترة الانتقالية إلى ما بعد كتابة الدستور..
لكن شيئا من ذلك لم يحصل، وإذا بالباجي قائد السبسي، يقود ائتلافا بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على حيازة الحكومة المؤقتة ثقة المجلس الوطني التأسيسي المنتخب.. ويتجه اليوم حسب ما علمته «الشروق» من مصادر جدّ وثيقة إلى عبور المرحلة الثانية من مبادرته، مرحلة تعنى بتركيز الهياكل عبر البلاد، والإعلان رسميا عن الحركة Mouvement..
ذلك أن وقع «حركة» سياسية اليوم، وفي هذا التوقيت السياسي الذي تمر به تونس، هو أشد تأثيرا من وقع احداث حزب جديد.. حركة، تشمل في ما تشمل وزراء عملوا مع الباجي قائد السبسي ما بعد «القصبة 2»، أي بعد الإطاحة بدستور 1959.. ونحن نعلم أن من بين هؤلاء الوزراء من كان على عدم توافق مع الباجي قائد السبسي.. وقد تعرضت المبادرة إلى لغو كثير، فيه النقد.. وفيه الانتقاد طال الأشخاص والشخصيات المعنية بمبادرة السبسي.
هل يكون قائد السبسي.. الرئيس القادم؟
هذه الفكرة راجت في المدة الأخيرة عبر الساحة السياسية التونسية الضيقة.. وقد أشرت لها عديد المعطيات، منها لقاءات ثلاثة، بين رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس الحركة الجديدة الباجي قائد السبسي.. وعلى أهمية هذه اللقاءات، فإن الثالثة منها والتي سبقت تحوّل قائد السبسي إلى قطر وفق دعوة من رئيس الوزراء حمد بن جاسم، كانت جلسة مهمة، لها مؤشراتها بل ودوافعها، مازال الطرفان يتكتّمان حولها..
والسؤال الذي يعاد طرحه الآن هو: من رفض أن يكون الباجي قائد السبسي رئيسا للجمهورية، عقب انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر الماضي؟ بالتأكيد ان حزب حركة النهضة لم يفصح عن موقفه الرافض (وقتها)، لتحوّل قائد السبسي من القصبة الى قرطاج، وقد أكدت له بعض الرسائل الرسمية الدولية والعربية أنه أمّن مردود البلاد من وضع اللاشرعية إلى وضع الشرعية..
اليوم، يعتقد بعض الملاحظين، أن مساعي متوافقة، ولقاءات متجانسة، موضوعها قائد السبسي، بدأت تطفو على السطح.. فهذه الولاياتالمتحدةالأمريكية التي «دعمت» من اختارهم الشعب التونسي في أكتوبر الماضي، ينبري سفيرها ليصرّح بموقف «السفير» في حكم قضية «نسمة»، ونستشف، من خلال الإمضاء الشخصي للسفير أن «أوباما» الرئيس هو صاحب الموقف، بما أن السفير يمثل الرئيس، في نظام رئاسي، وأن الامضاء لم يكن باسم السفارة الأمريكيةبتونس.. وقس على ذلك موقف المفوّض الأوروبي ببلادنا، وهو الذي يؤمن البعثة الأوروبية للاتحاد، والذي نحا نفس المنحى..
هنا، يمكن أن تكون النية تتجه، نحو شخص الباجي قائد السبسي رئيسا، بما أن الطعونات التي لاحت ضدّ بعض المنتمين إلى «المبادرة» لم تجد نفعا.. إذن (يقول قائل) لماذا لا يضرب أهل السلطة الآن، عصفورين بحجر واحد: التخلّص من الخيار الذي كان موضوع وفاق «الترويكا» الخيار الذي أسكن المرزوقي قصر قرطاج، وفي الآن نفسه، يكونون قد تخلّصوا من عبء منافس، سيكون حركة تضمّ الرافضين والصامتين والمصدومين من الأحزاب الاخرى... لكن يبقى هذا السيناريو، رهن الطبخ الجيّد... والتفاوض الجيّد... مع الطرف المعين... وخاصة هو رهن قبول الطرف المعين...
آخر معلومة لدى «الشروق» تقول إن الباجي قائد السبسي قد يكون غير مقبل على هكذا حل أو سيناريو وهو الذي يعلم أن البلاد يقف اقتصادها ونموّها في «عنق الزجاجة».. وقد يردّ بقولة معروفة عن بورقيبة: قليل جدا... ومتأخرا جدا... «Trop peu et trop tard» فقد كان الأمر مقبولا من قائد السبسي... في الأول... بداية الانتخابات.
هكذا يبدو المشهد السياسي في تونس... به اختلال في التوازن... فهل يتجالس التونسيون لكي يحدثوا به التوازن المطلوب؟ هذا ممكن... ولكن وفق منظومة شروط، لعلّ أهمّها اقرار مبدإ التداول السلمي على السلطة... والعمل بمقولة: «لو دامت لغيرك... لما آلت لك»...