ولما ازداد الواقع الاجتماعي احتقانا وتأزما والواقع الاقتصادي مزيدا من ارتهانه بشكل كلي للاقتصاد الرأسمالي العالمي فبيعت العديد من المؤسسات العامة وعمت الخصخصة ولما شهدت الأزمة السياسية تطورا في اتجاه فرض سياسة الأمر الواقع بما يعنيه التوريث والتمديد من ممارسة الاستبداد الممنهج والقمع المسلط على الحريات العامة والفردية وانتهاك حقوق الانسان وما زاد الطينة بلة انتهاج سياسة الاستسلام القومي للعدو الصهيوني والتفريط في القضية الفلسطينية بل والتآمرعليها وعلى المقاومة الوطنية والتي وصفها بالمغامرة في هذه الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقومية ازداد ضغط الشارع المصري وبدأ ت الاحتجاجات والتحركات الجماهيرية تتزايد ضد النظام .وما أن أطيح بنظام بن علي في تونس في 14 جانفي2011 حتى أعلنت حالة العصيان المدني في أكبر مظاهرة مليونية في ميدان التحرير بالقاهرة في 25 يناير 2011 والتي رفعت شعار اسقاط النظام . وما أن حل شهر فيفري2011 وبالتحديد في 10 فبراير حتى أعلن المجلس العسكري بقيادة المشير محمد حسين الطنطاوي القائد العام للقوات المسلحة و وزير الدفاع والإنتاج الحربي تنحي مبارك عن الحكم مرغما تحت ضغط الانتفاضة الثورية بعد ما تخلت عنه أمريكا كما تخلت من قبل على بن علي .
في ذلك الحراك الثوري الذي شهدته مصر والذي أدى الى تنحي مبارك عن الحكم كان ثقل الشارع المصري كما كان في تونس بيد المجتمع المدني وعلى رأسه ائتلاف شباب الثورة بحيث لم يكن الاخوان المسلمون ولا السلفيون الذين جاؤوا من بعد سوى جزء من ذلك المشهد الذي انتهى بسقوط رأس النظام .
وبعد صراع بين القوى السياسية و المجلس العسكري الذي أدى الى سقوط حكومة أحمد شفيق والتي كانت امتدادا لنظام مبارك وتولي عصام شرف يوم 3 مارس 2011 اختيار حكومة جديدة التي سقطت هي الأخرى استجابة للمد الثوري والحراك اليومي في الشارع ما استوجب تدخل المجلس العسكري بتكليف الدكتور كمال الجنزوري بتشكيل حكومة انقاذ وطني في 7 ديسمبر 2011 .وفي ظل حكومة الجنزوري المدعمة من طرف المجلس العسكري وقعت انتخابات مجلس الشعب في بداية يناير 2012 حيث جرت في ظروف شبيهة بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تونس التي طغى عليها عاملان أساسيان وهما استخدام المال السياسي لشراء الأصوات من جهة والزج بالمواطن في معركة الهوية باستخدام الاسلام السياسي تحت شعار الاسلام هو الحل من أجل الوصول الى السلطة مستغلين في ذلك الشعور الديني الفطري كمخزون نفسي لدى المواطن العربي من جهة و بساطة ثقافته السياسية من جهة أخرى بعيدا عن الغوص في القضايا الجوهرية العاجلة كالبطالة والفقر والصحة والتعليم والنقل والسكن والإقصاء والتهميش التي ثار من أجلها المواطن المصري .وكانت نتيجة الانتخابات غير مفاجئة بالمرة لكل متابع للشأن السياسي في مصرخاصة بعد فوز حركة النهضة في تونس بنسبة الأربعين في المائة حيث حصلت نهائيا حركة الاخوان المسلمين ممثلة بحزب الحرية والعدالة على 107 والسلفيين ممثلين في حزب نورعلى 46 مقعدا من جملة 270 مقعدا.
و خلال المرحلة الانتقالية وخاصة بعد نتائج الانتخابات سواء في تونس أو في مصر برزت في المجتمع مظاهر غريبة وجديدة على المواطن العربي هي ظاهرة التكفير والتشدد الديني المرتبط أساسا بالسلفية الوهابية الدخيلة على المواطن في كل من القطرين والواردة علينا من طرف مشايخ الفتنة في كل من قطر والسعودية الذين أسسوا البنية الايديولوجية لتنظيم القاعدة صنيعة المخابرات البريطانية والأمريكية في التسعينات . وبدأنا نشهد صراعا سياسيا حادا بين جماعات الاسلام السياسي وعلى رأسها حركة الاخوان المسلمين ممثلة في مصر بحزب الحرية والعدالة وممثلة بحزب النهضة في تونس والمجتمع المدني مشكلا في الأحزاب والجمعيات الأهلية والمنظمات المدنية .ما جعل الشارع في كل من مصر وتونس يشهد حالة من الاحتقان والفلتان الأمني ما ولد مظاهر العنف الشديد باسم الصراع بين الكفر والإيمان وبين العلمانية والدين بحيث بعد ما كان الدين محايدا بمعنى غير مسيس أصبح يدخل في أدق التفاصيل المجتمعية ما جعل المجتمع يشهد استقطابا حادا وثنائيا بين الأحزاب الدينية والأخرى المدنية والأهلية.
وهكذا أصبح الانتقال الديمقراطي السلمي المنشود مهددا بالفتن والحروب الأهلية من طرف التيارات السلفية الوهابية التكفيرية المتشددة الموغلة في الرجعية التي لا ترى في أسلوب الحكم الديمقراطي إلا كفرا وخروجا عن التشريع الالهي والشريعة الاسلامية .وما زاد هذه التيارات عنادا وتطرفا هو تغاضي ما يسمى بالأحزاب الاسلامية المحسوبة عن الوسطية والاعتدال عن تغولهم في الشارع والمساجد والمجتمع بشكل عام بحكم أنهم يمثلون الاحتياط الاستراتيجي في الخريطة الانتخابية .
فالمتتبع للشأن السياسي سواء في تونس أو في مصر يلاحظ أن الوضع لا يزال على حاله بل ازداد سوءا خاصة في المجال الأمني والاجتماعي والاقتصادي. فالبطالة اتسعت رقعتها والأسعار التهبت نارها وغاب الأمن واختفت محاسبة القتلة والفاسدين من زمرة الأنظمة العميلة والمطبعة والفاسدة السابقة وكثرت الجريمة حتى بتنا نشك بأن الأمر دبر بليل في الغرف المغلقة للامبريالية وعملائها وأنه فعلا ربيع هيلاري كلينتون وليس ربيعنا كما يتأكد لنا ذلك من خلال دراسة للدكتور فائز حوالة يبين فيها تخوف الغرب من أسلمة أوروبا نتيجة الاقبال الكبير للهجرة الاسلامية الى أوروبا وفي اطار البحث عن طريق لإعادتهم الى أوطانهم بشكل غير مباشريؤكد الدكتورفائز أبو حوالة على :« خلق الاجواء الملائمة لهؤلاء فوق تراب اوطانهم وبشكل خاص تهيئة الظروف السياسية و الاجتماعية وتحت مسميات مختلفة كالتغير الديموقراطي او الثورات الشعبية او الانقلابات العسكرية او غير ذلك من المسميات ولكن الهدف النهائي واحد وهو اعادة هذا الكم الهائل من تابعي الديانة الاسلامية على وجه الخصوص الى بلدانهم الاصلية».
فبعد نجاح الزحف الثوري للجماهيرالشعبية في اسقاط أعلى هرم السلطة في كل من تونس و مصر دخلت الأجندات الغربية بنفوذها السياسي والمالي والاقتصادي لتحول دون التغيير الثوري الجذري المؤمن بالقرار الوطني المستقل وسيادة الشعب على أرضه وفي وطنه فعملت على اجهاض التحول الثوري وانتدبت لها عملاء جدد من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين لطمأنتها على مصالحها الاستراتيجية بعد أن تخلت عن بن علي في تونس ومبارك في مصر وفي هذا الاطار يقول الدكتور فائزأبو حوالة «وبعد ان استطاعت ان تنشر على الحدود الشمالية لإفريقيا المستقبل جماعات الاخوان المسلمين الذين تعتبرهم الادارة الامريكية حراساً للحدود الشمالية لإفريقيا بينما اوربا تنظر اليهم بعين الحارس الامين على المصالح الغربية من جهة و الامل في شد ماتبقى من المسلمين وإرجاعهم الى اراضيهم لتفرغ اوربا و تنهي عهد اسلمة»
وهكذا دخل الاسلام السياسي المعدل جينيا في البنتاغون على الخط بعد سلسلة من اللقاءات والمشاورات فنقرأعلى سبيل الذكر لا الحصر في المركز العربي للدراسات المستقبلية: «وقالت سندس عاصم عضو لجنة العلاقات الخارجية بحزب الحرية والعدالة ورئيس تحرير موقعه الالكتروني باللغة الانجليزية في منتدى بجامعة جورجتاون في واشنطن “نحن هنا لنبدأ مد جسور التفاهم مع الولاياتالمتحدة».
ولترجمة جسور التفاهم مع الامبريالية الأمريكية قامت كل من حركة النهضة وحزب الحرية والعدالة بطمأنة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي للإنشاء والتعمير للإبقاء على الاملاءات والشروط والتعهدات . وهكذا حافظوا على نفس الاختيارات الجوهرية في المجال الاقتصادي المغرقة في التبعية للرأس المال الأجنبي الأمريكي والأوروبي وأبقوا على كل الاتفاقيات المبرمة في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري مع الادارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بما في ذلك اتفاقية كامب دافيد مع العدو الصهيوني.وهكذا نفهم مما سبق أن الرئيسي في المعركة بالأمس واليوم وغدا ليست المسألة الديمقراطية على أهميتها بل المسألة الوطنية حتى لا تصادر أوطانا وتحتل أخرى و يعاد تقسيم الوطن العربي في سايكس بيكو جديدة باسم الديمقراطية والثورات العربية والربيع العربي . هذا رأينا نقوله بكل مسؤولية وأمانة.