تدرك الشام أتم الإدراك أن استرداد العافية و«عودة الروح» إلى البلاد تمر حتما عبر الاستجابة لثلاثة استحقاقات حتمية وضرورية , أولها إصلاح الإعلام بطريقة جذرية ثانيها إيجاد بدائل تجارية تحفز الاقتصاد المحلي وثالثها حل معضلة تيار «الإسلام السياسي» . تعلمت الشام من أزمتها التي طوت عامها الأول ونيف من الأشهر أن هناك أزمة هيكلية داخلها وأن الضرورة باتت ملحة لتجاوزها بأخف الاضرار والتكاليف .. كما تيقنت بأن التأجيل أو التعجيل في تسوية الملفات الكبرى لن ينجم عنه سوى استرجاع للب المعضلة في ثوب جديد حال التعجيل أو إطالة لأمد محنة يعاني السوريون من وطأتها حال التأجيل .
سقطت المحرمات السياسية أو تكاد في سوريا وتحديدا في دمشق , يحدثك من التقيتهم في أزقة وحارات العاصمة الشهباء العتيقة عن الفساد والمحسوبية و«القطط السمينة» التي احتكرت التجارة السورية وعن قضايا أخرى كانت بالأمس القريب طي الكتمان ... كل الكلام «يقول لك بعض الشباب السوري» مسموح طالما أنه تحت سقف الوطن وسيادته ولا يستدرّ من ورائه تدخل أجنبي عسكري أو أجنبي .
تعلمت سوريا ومعها السوريون التشخيص الصحيح للواقع بلا مجاملة ولا مواربة - وملامسة الحلول المنطقية – بلا راديكالية وبلا احتشام أيضا - . «نريد الانتقال من إعلام الدولة إلى إعلام المجتمع ذلك هو هدفنا الأساسي وقد بدأنا في بلورة لبناته الأولى من خلال فسح المجال أمام الإعلام والمواطن السوري حتى يعبر دون رقابة أو مراقبة» .. بهذه العبارة يفاتحك وزير الإعلام السوري السيد عدنان محمود مشيرا إلى أن رخصا ستمنح تترا لفضائيات خاصة ومستقلة وصحف جديدة وإذاعات حديثة لتأثيث المشهد الإعلامي السوري الذي كان – ولا يزال في جوانب عديدة - أحد نقاط الضعف السورية خلال أزمتها الداخلية .
تسائل الوزير عن إمكانية مبادرة دمشق بإقامة مشروع إعلامي ضخم يجمع بين الديمقراطية والحرية في بعدها التشاركي التعددي وبين المقاومة والممانعة في بعدها المبدئي فيميط لك اللثام عن مشروع إعلامي – في طور الإنجاز – يوازي القنوات الخليجية التي ملأت الدنيا وأفرغت العقول في حجم إمكانياتها ولكنه يتجاوزها في المبدإ والخط والمنهج والرؤية والمقاربة .. يحاول الإعلام السوري الرسمي و«الخاص» أن يستثمر هذه المحنة وأن يحولها إلى منحة إعلامية تخرجه من سياق الدعاية واللغة الخشبية وتضعه أمام استحقاق الإخبار المهني والنقل الموضوعي .. ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
وكما الإعلام , يعيش الاقتصاد السوري مخاضه الصعب والعسير مع تضييق العقوبات الاقتصادية الخناق عليه لاسيما وانها جاءت عقب انفتاح الاقتصاد السوري على السوق الحرة وإبرامه اتفاقيات تعاون مشترك مع تركيا وعدد من الدول الغربية.
يقول النقابيون وأعضاء المنظمات المهنية والاشتراكيون – ممن التقيتهم في دمشق أنه حذروا النظام من مغبة اعتماد هذا المنهج الاقتصادي الذي يضر بطبيعة الاقتصاد السوري ويدخل البلاد في منظومة البنك الدولي ورأسمال العالمي .
يحبذ النقابيون واليساريون السوريون كثيرا التطرق إلى هذه النقطة الاقتصادية وتذكير من هم في السلطة ب«صواب رؤيتهم» المالية على الأقل ولكنهم في ذات الوقت يعرفون أن سوريا الدولة الوحيدة في العام التي لم تقترض دولارا واحدا من أي طرف كان منذ سنوات ويدركون أيضا أن الاقتصاد الزراعي السوري الهائل جنّب البلاد أزمة زراعية كانت ستثقل كاهل الدولة والمجتمع في آن وتعمّق المعضلة أكثر فأكثر ..
ولكنهم أيضا واثقون بأن ذات الحصار والعقوبات الاقتصادية التي دفعت الإيرانيين إلى نحت اقتصاد محلي قوي دون «صدقة» أو «منة» من أحد هي ذاتها التي ستلزم السوريين بالتعويل عن مقدراته الداخلية وإبداع مسالك جديدة لتماسك الليرة السورية .. قد تكون الشراكة مع دول «البريكس» أحد أبوابها .. ولكن الأكيد أنها لن تكون الوحيدة والفريدة.. فقد انتهى زمن وضع كل البيض في سلة واحدة ... ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
من ساحة يوسف العظمة إلى ساحة الأمويين ومنها إلى السبع بحرات.. ازدانت دمشق بصور المرشحين للانتخابات البرلمانية واللافتات الدعائية.. صور ترفض أن تمر عليها مرور الكرام.. تتفرس في الوجوه والأسماء وكأنك تبحث عن قريب لك من جملة المترشحين .. تدرك أن هناك شيئا «استثنائيا» في القائمات والصور .. تعيد النظر وترجع البصر كرتين .. وفجأة تدرك عيناك المراد.. مستقلون «متدينون» ينافسون ويتنافسون على مقاعد البرلمان السوري .. «تاريخ الشام وحضارتها وثقافتها» .. هكذا مهروا لافتاتهم الدعائية الانتخابية.. مع ذكر اسمائهم وتخصصاتهم الدراسية الدينية ووظائفهم الحالية ..
التقف تساؤلاتك الكثيرة عنهم والتي تمحورت حول دخول الإسلاميين للانتخابات البرلمانية وحول نشاط «الإخوان المسلمين» في سوريا وعن ... فقال لك منيرا لبعض جوانب الإبهام ... هم من تيار الناشط السياسي المعارض محمد حبش.. ليسوا إسلاميين ولا إخوان ولكنهم يرون أن الإسلام جزء مهم جدا من حضارتهم وثقافتهم وأفقا لتحركهم المدني دون أدلجة أو تحزّب .. فلذا فهم لا يتحرجون في نفي «انتمائهم للتيار الإسلام السياسي» ولا يحتفظون ايضا في دخولهم المعترك السياسي بهذه الفكرة والخلفية المحافظة .
ولا يلتفتون في ذات السياق لاتهامات المعارضة السورية لهم وخاصة منها الإسلامية بخدمة النظام والسعي إلى سحب البساط من تحت أرجل الإخوان المسلمين. ك«جبل قاسيون» في هدوئه وشموخه .. اتكأ على أريكته وأراح ظهره ولمس أرنبة أنفه وداعب لحيته متفكرا ومستحضرا.. «في بداية التسعينات شاركت في الانتخابات البرلمانية السورية كمستقل.. القانون كان يمنع على رجال الدين المشاركة مستقلين ولكني شاركت وحزت اعلى أصوات الناخبين على كافة المترشحين» يقول مفتي الديار السورية الشيخ الفاضل أحمد بدر الدين حسون الذي سنكون معه في ورقة صحفية مقبلة ويبدو أن الشيخ حسون كان هو السباق لهذا النوع من المشاركة في الانتخابات والتي تبرهن على أن الإسلام أوسع من أن يقتصر في حزب أو تيار وأعظم من أن يختزل في إيديولوجيا أو مقاربة مهما كان غناها وسعة افقها .
وتبقى في الأخير مسألة تمثيل هؤلاء المستقلين للمستقلين أولا وللمحافظين ثانيا وللجمهور السوري ثالثا استحقاقا في يد أهل الشام وحدهم .. الحوار الوطني مفردة كثيرة التداول داخل الأوساط السياسية السورية.. وفي تردادهم لها توق وشوق إلى إنهاء الأزمة السورية بكافة آلامها وأوجاعها.. وليكون الحوار على قدر الاستحقاق وعلى قدر الآمال.. لا بد لكل السوريين أن يدخلوه بكل شفافية وصدق وان يخرجوا منه وقد تعافى اقتصاد البلاد وتطوّر إعلامها وقد طويت معه قضية الإسلاميين نهائيا ... وبلا رجعة ...