أمّا المكان فإنّه يمتدّ عبر رقعة جغرافيّة واسعة أهمّها ولا شكّ مسرحان مركزيّان هما: مدينة دوز المتّكئة على ضفاف الرّمال تغازل الصّحراء الشّاسعة، ومدينة قابس التي تنام على ضفاف المتوسّط وتتمطّى كلّ صباح في تثاؤب وكسل. هذان المسرحان يشهدان الوقائع الفعليّة للأحداث التي تنمو في اتجاه طوليّ يكاد يفقد العلّية، غير التتابع الزّمني. ولكنّهما لا ينفردان بالحضور، فأمكنة من قبيل تونس العاصمة وطرابلس الغرب والجزائر والصّعيد المصري والجزيرة العربيّة، كلّها ترد في أحاديث المتحاورين كما ترد في المتن السّردي الّذي يتتبّع آثار بعض الشّخصيّات إمّا أفقيا أو عموديّا. وذلك من قبيل عمر الذّيب الّذي «هرب من الجيش الفرنسي خلال الحرب العالميّة الثّانية». و«عاد من المغرب الأقصى مشيا على قدميه..» بعد أن «تاه في صحراء الجزائر.
(و) أنقذته من الموت غزالة كانت ترضعه. لعلّها إحدى جدّاته المرزوقيات صافيات الحليب». وكان قد «التحق (بالفلاّڤة) مع المبروك الخالدي إثر الاجتماع الّذي عقده الحبيب بورقيبة في الحامّة خلال شهر مارس 1950.» (انكسار الظلّ. ص97) وكذلك الطّاهر ولد جليلة الّذي يتحدّث «طويلا ككلّ مرّة عاد فيها من ليبيا، عن الشّبه الكبير بين حياة اللّيبيين وحياة المرازيق حتى أنّ عرشا كاملا يسكن مدينة سيدي السّايح يُسمّى عرش المرازيق» (انكسار الظلّ ص102). بل إنّ المكان ليمتدّ إلى أوسع من ذلك حتّى يمتزج البعدان، الزّمان والمكان ولكن من خلال الاستحضار الدّائم كما يرد في حديث سي الهادي بن عامر الّذي يسوق أصل المرازيق قائلا: «ينحدر المرازيق من أعراق بني سليم التي كانت مضاربهم في عالية نجد. هاجروا إلى الغرب (بحيث) استقرّ بعضهم في الجيزة قرب القاهرة ثم استقرّ قسم كبير منهم في لبده ومصراته ومسلاته وجبل غريان الّذي جاؤوا منه إلى البلاد التونسيّة. (بحيث) تفرّقوا بين جندوبة وماطر ونابل حتى استقرّوا في نهاية المطاف في دوز في عهد الدّولة الحفصيّة» (انكسار الظلّ. ص 102).
وهكذا يخيّل إليك أحيانا وكأنّك في قارّة الرّوائي اللّيبي إبراهيم الكوني في رباعيّة الخسوف أو رواية المجوس أو السّحرة بجزءيهما. بل إنّ هذا المكان ليتمدّد ويتوسّع من خلال الاستحضار حتى ليصل إلى أقاصي أوروبا وسويسرا، فعندما يستدعي السّارد بعضا من سيرته في الفصل الثّاني عشر تأتي هذه المقارنة اللّطيفة بين مكانين ومجتمعين: «مشيتُ في شوارع جينيف خلال إحدى عطل الصّيف أيّام الجامعة. كنتُ أبحث عن عمل موسميّ.. انتصبَ على الرّصيف حانوتٌ صغير من الخشب والبلّور لبيع الجرائد.. يأخذ الواحدُ من المارّة الجريدة ثمّ يضع ثمنها (فرنك سويسري) داخل الصّندوق. لم يكن أحد داخل الصّندوق.. التفتّ يمنة ويسرة ثمّ انصرفت حين تأكّدت أن لا أحد يهتمّ بما أفعل، فأنا في أشدّ الحاجة إلى ذلك الفرنك السويسري. مشيتُ عدّة خطوات ثم عدت لأضع الفرنك داخل الصّندوق. قالت لي نفسي: «لا فضل لأوروبّي على عربيّ إلاّ بالصّدق والعفّة والممارسة الفرديّة للعدل» تصفّحتُ الجريدة مزهوّا بما تعلّمتُ في صباي في قرية تبدو بعيدة عن جنيف بعد السّماء عن الأرض» (انكسار الظلّ. ص185)
وفي معرض التعليق على تفادي للتي فاطنة بنت عمر التصريح باسم زوجها الّذي ينقلب في أحاديثها إمّا إلى «ولدك» إذا تحدّثت إلى عمّتها (أمّ زوجها) أو «أبوك» إذا كانت مع أطفالها، أو «أخوك» إذا تكلّمت مع أحد إخوته، وبعد أن كان السّرد يتقدّم متوسّلا ضمير الغائب، فجأة تقفز الأنا السّاردة ليختفي ضمير الغائب ويتحوّل إلى ضمير المتكلّم. ويأتي التعليق سافرا ليكشف عن هذه الأنا في لمحة خاطفة فيختزل الزّمن السّردي في أقلّ من سطرين. «تساءلتُ صبيّا «كيف لا تعرف امرأة اسم زوجها؟» وأدركتُ كهلا أنّ الحياء إحساس مقدّس وأنّ الحقيقة لا يدركها إلاّ اليقين ما دام السّبيل بين الأعين» (انكسار الظلّ. ص20).