كنت أشاهد، منذ أيام، برنامجا في إحدى القنوات التلفزية التونسية، فرأيت الكثير من أصحاب وصاحبات البشرة السوداء التونسيين يتذمرون ويتذمرن من نظرة البيض إليهم وسوء معاملتهم، فشعرت بأن تلك المعاملة تكاد تشبه معاملة الأمريكيين البيض للسود قبل أكثر من نصف قرن، حيث كانوا يمنعونهم من دخول دور السينما ومن بعض المقاهي والمطاعم التي يكتبون على أبوابها وعلى أبواب بعض المحلات كلمات مهينة لهم وساخرين من حقوق الإنسان مثل: (ممنوع دخول السود والكلاب)، ولكن الأمريكيين تراجعوا في هذا الوقف أخيرا من ذلك أن رئيسهم الأسبق «كلينتون» قدم - عند زيارته لدار العبيد في جزيرة غوري بالسينيغال - الاعتذار لجميع السود وخاصة للذين كان الأوروبيون يصطادونهم في البلاد الإفريقية ويصدرونهم إلى بلدانهم كما تصدر البضاعة والحيوانات. ومن حسن حظ السود في أمريكا أن دولتهم اختارت أن ترشح لرئاسة جمهوريتهم رجلا أسود ابن أسود وسوداء كانا يدينان بالإسلام، وقد اختاره شعبهم لرئاستها، ويجوز لنا أن نفخر بأن أحد بايات تونس أصدر أمرا عليًّا بتحرير العبيد في تونس، غير أننا، من خلال ما استمعنا إليه في ذلك البرنامج، ظل بعضنا يعامل ذوي البشرة السوداء معاملة العبيد وهم أحرار، فغفلنا عن أن شريعتنا السمحة أمرتنا أن نعمل على تحرير العبيد بشتى الوسائل، وضربنا عرْض الحائط بقول عمرَ ابن الخطاب: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).. عندما رأيت وسمعت ما دار في ذلك البرنامج تذكرت حديث الشاعر أحمد اللغماني عن أحد زملائه بمدرسة ترشيح المعلمين بتونس من الجهة التي ينتمي إليها اللغماني، وهي قرية «الزارات» بجوار قابس، فقد قال عنه إن جد ذلك الزميل لم ينجب من زوجته البيضاء عقِبا فقال له بعض أبناء تلك الجهة: لا يمكن أن تنجب إلا إذا تزوجت امرأة سوداء، فتزوج سوداء من تلك الجهة، ولعلها ممن عُرفوا في بلادنا ب(عبيد غبنتن) فولدت له طفلا أسودَ في لون أمه، وعندما كبُر ذلك الابن تزوج امرأة بيضاء فولدت له طفلا أبيضَ مثلها وفي لون جده الأبيض، ولما كبر ذلك الطفل ذهب ليختم دراسته في ترشيح المعلمين بالعاصمة مع زميله وابن جهته اللغماني، وذات يوم جاء والده الأسود من الجنوب إلى تونس العاصمة وذهب إلى ترشيح المعلمين حيث قابل ابنه الأبيض، ولما سأله زملاؤه عنه قدمه لهم قائلا: هذا «خمّاسنا»، ولما حضر اللغماني قال له زملاؤه: لقد حضر اليوم من جهتكم «خماس» والد زميلك فلان، وهو أسود اللون»، فقال لهم: بل ذلك والده، وعندما حضر ذلك الزميل قال له أمام أصحابه: سمعت أن والدك قد زارك اليوم، ثم لامه على إنكاره أباه أمام زملائه. وهذه الحادثة التي رواها اللغماني تدل على صدق ما قاله كثير من سود أهل الجنوب من سوء معاملة البيض للسود ورفض التزاوج بينهما إلا للضرورة كما رأينا في سبب زواج جد زميل اللغماني.
وفي (اليوم العالمي للقابلة) الذي احتفل به العالم منذ بضعة أسابيع، تذكرت أن والدتي - رحمها الله – قالت لي إنها، عندما تمخضت بي، قالوا: إن ولادتها عسيرة، لذلك يجب أن نحضر لتوليدها القابلة «الحاجة حليمة زوجة الحاج سعد» وهي امرأة سوداء طيبة استقبلتني عند نزولي إلى معترك هذه الحياة، ونزلتُ على يديها السوداوين إلى هذا الكون، وفتحتْ لي بهما دروبا بيضاء تارة وسوداء تارة أخرى في هذا الوجود الرحيب، وقد رأيتُها عدة مرات في صغري وشبابي الأول وما زلت أذكر أنها كانت قصيرة تتوكأ على عكاز، وقد سألت عنها صهري الحاج محمد بن الشيخ فروى لي أنها قالت أمامه في صغره إنها كانت من عبيد البشكاطي من سكان «الأحواش» شرقي قليبية وشمال حصن قليبية المعروف بالبرج، وذات يوم ناداهم سيدهم وقال لهم: أنتم من الآن أحرار بأمر الباي، فمن شاء منكم التحرر والذهاب حيث يشاء، ومن شاء البقاء فليبق، فأنتم في ذلك بالخيار، فذهبتْ مع أهلها إلى مدينة قليبية قرب حي باب البلد، أما مهارتها في التوليد فلست أدري ممن اكتسبتها، فقد أصبحت القابلة الأولى في قليبية، وقد عُرف من هذه العائلة السوداء بعض الرجال والنساء، وأذكر أن إحدى بنات تلك العائلة تزوجت في أواخر أيام الاستعمار الفرنسي من إيطالي أبيض قِيل إنه اعتنق الإسلام، كما تزوج أحدُ الإسبانيين الهاربين من حكم «فرانكو» واحدة أخرى من تلك العائلة.
قال إيليا أبو ماضي مقلدا شعر السود في أمريكا في قصيدة عنوانها (عبْد) ذات الثلاثة مقاطع:
(فوق الجُميزة سنجابُ والأرنب يلعب في الحقل ِ وأنا صياد وثابُ لكنّ الصيد على مثلي محظور إذ أني عبَْدُ)/ (والدِّيكُ الأبيضُ في القُنِّ يختال كيوسفَ في الحسن ِ أنا أتمنى لو أنّي أصطاد الديكَ ولكنّي لا أقدر إذ أني عبدُ)/ (وفتاتي في تلك الدار سوداءُ الطلعة كالقار سيجيء ويأخذها جاري يا ويحي من هذا العار أفلا يكفي أنّي عبدُ)؟ وبالمناسبة أذكر أن الخال وهو النقطة السوداء التي تزيِّن الخدود البيضاء قد تغزل به كثير من الشعراء منهم عمر بن أبي ربيعة الذي قال في إحدى الجميلات: لها خال على صفحات خدٍ*كنقطة عنبرٍ في صحن مرمرْ وألْحاظ بأسيافٍ تنادي على عاصي الهوى: الله أكبرْ أما صاحبُ هذا المقال فقد رأى فتاة سوداءَ حسناءَ فخُيِّل إليه أنها كلها خال فقال: تعشقتَ خالا أسود اللون قد بدا على خد من لاحتْ كتمثال مرمر ِ وأحببتُها سوداءَ، فهْي جميعُها تلوح كخالٍ أو كنُقطةِ عنبر ِ وأختم هذه الكلمة بالدعاء لروح القابلة السوداء الحاجة حليمة نوّر الله وجهها يوم القيامة، وأدخلها الجنة غرَّاء مشرقة المحيّا لقاء ما ساعدت من نساء في ولادتهن لأجيال خدموا البلاد والعباد.