منذ سقوط نظام «بن علي» ألف المواطن أن يصحو على خطاب حماسيّ يصدر عن طرف سياسيّ متوثّب للحكم والسيطرة، وأن يغْفوَ على آخر يصدر عن جهة سياسيّة معارضة تحاول أن تجبّ ماسواها.والغريب أنّ كلّ هذه الخطب الناريّة، من هنا وهناك، تنتهي بوعود رنّانة لكنها خاوية خَوَاءَ طبل حكاية»كليلة ودمنة».وعندما يتوارى التصفيق بسرعة يجد المواطن نفسه كالقابض على الماء بالأصابع لا يظفر بما يمكن أن يُشْفي غليله. وغبّ ظهور نتائج الانتخابات، وتقدّم حزب حركة النهضة على منافسيه، لم يتوقف السجال بين المعارضة والحكومة.الثلاثي المتحالف في الحكم الذي أمسك بمقاليد السلطة، حاول أن يوزّع الغنائم على أنصاره ومناضليه دون أن ينظر مليّا إلى الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمرّ به العالم، والذي يحتّم تجنيد الخبراء للمساهمة في إخراج البلاد من المطبّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي وقعت فيه! وأصبح كلّ نقد أو لوم يُوَجَّه إلى الحكومة، أو مطالبة ببرنامج اقتصادي واضح، يُنْظَرُ إليه على أنّه محاولة لعرقلة المسار الديمقراطي، ولعبة قذرة الغاية منها إفشال عمل الحكومة، والسعي إلى اسقاطها.. وانتقلت الحرب بين الحكومة والمعارضة من داخل أسوار البرلمان، إلى الشوارع .فعاشت تونس في «التاسع من أفريل» الذي يوافق الاحتفال بعيد الشهداء في تونس، يوما لاسعا من العنف والتصادم كانت البلاد في غنى عنه. وفي الوقت الذي انتظر فيه كثيرون ظهور «حمادي الجبالي» في هذا الوضع الصعب ليساهم في تخفيف حدّة التوتّر وطمأنة الناس وتهدئة النفوس كي يقبل المواطن على مرحلة بناء تونسالجديدة بصبر، بدا أنّ خطابه عزّز المخاوف أكثر. فبدا وكأن الحكومة توجّه رسائل ضمنيّة إلى الاتحاد تشي بأنّه طرف في زعزعة الاستقرار، والزجّ بالبلاد في أتون الفوضى. والمطلوب في هذا الوقت أن تتوحّد الجهود ،وأن تصفو النيّة لنجاح المرحلة الانتقالية الموكول إليها فعل التأسيس لمستقبل البلاد. لا مصلحة للمواطن البسيط في صراع «دونكيشوتي» بين حكومة ومعارضة.
إن الحكمة تقضي بأن يؤسس السياسيون في هذه المرحلة لثقافة الاختلاف الخصب الذي لا يجب أن يتحوّل إلى معركة أيديولوجية لا تنفع البلاد والعباد. فالمواطن لا يهمه أن يحكم البلاد يمينيّ أو يساريّ... ما يعنيه هو ألّا يجوع أبناؤه، وأن يوفر لهم قوت يومهم.
إنّ المشهد السياسيّ اليوم ينبئ عن حكومة شرعيّة ولا يمكن لأحد أن يزايد على اختيار الشعب. لكنّها متردّدة، يفتقد أغلب عناصرها إلى الخبرة ممّا أعطى انطباعا بأنها غير قادرة على وضع برامج وتصورات واضحة لمجابهة المشاكل الاجتماعيّة والاقتصادية الخانقة. ولعلّ هذا التردّد الذي يشبه العجز عن الفعل والمبادرة، هو الذي يفسّر «الحساسيّة» المفرطة تجاه كلّ نقد من المعارضة، أو مطالبة بإجابات واضحة عن أسئلة حارقة.وإذا كان بعض الوزراء في الحكومة قد شرعوا في الانكباب على الملفات الثقيلة التي تملأ أدراج مكاتبهم وخزائنها، بعيدا عن الضجيج الإعلاميّ، فإنّ آخرين خانتهم حكمة الوزير ورصانته، فأطلقوا عنان ألسنتهم لتصريحات ناريّة يبدو فيها الوزير مناضلا سياسيا يقوم بتعبئة الجماهير أكثر منه مسؤولا يعالج الأوضاع بصرف النظر عن تداعياتها السياسيّة.ويبدو أن تنسيق الظهور في وسائل الإعلام مع رئيس الحكومة مفقود بدليل تباين آراء الوزراء أحيانا في مقاربة مسألة من المسائل . على أنّ تحميل الحكومة وحدها كلّ ما يجري على الأرض يعدّ إجحافا ومبالغة في تقييم الأمور.؟فهل المعارضة التي فضّلت أطراف منها الجلوس على الربوة، غير معنيّة بما آلت إليه الأوضاع في تونس؟
لا اختلاف حول دور المعارضة في تعزيز المسار الديمقراطي، ومراقبة الحكومة كي تقطع طريق التسلّط والديكتاتورية.لكنّ أداءها لم يتجاوز التركيز على الأخطاء، والهنات دون المبادرة بتقديم بدائل حقيقيّة يمكن أن تستثمرها الحكومة للتصحيح أو التعديل. وبدت هذه المعارضة المشتّتة وكأنّها لا تبغي إلا كشف قلة خبرة الوزراء، وسوء تصرفهم. والمعلوم أنّ مَنْ يُعالجِ الأوضاع ميدانيّا يكون في وضع أصعب من ذلك الذي يراقب عن بعد وينتظر زلّات الآخر.
إنّ المعارضة تكون فعّالة عندما تتحوّل إلى قوّة اقتراحيّة ضاغطة لا تتوانى عن كشف الأخطاء بعيدا عن الحسابات السياسية الضيّقة، ولا تتردّد في دعم قرارات الحكومة، وإسنادها متى كانت صائبة حتى وإن لم تجد قبولا عند الجماهير التي تحتكم دائما إلى العاطفة.ولم يظهر على السطح ما يفيد أنّ هذه المعارضة تملك مشروعا بديلا يمكن أن يُعْتَمَد متى استدعت الضرورة توسيع الحكومة لتنفتح على أحزاب أخرى.
من الواضح أنّ لعبة الكرّ والفرّ بين الحكومة والمعارضة، لا تقدّم أجوبة شافية عن أسئلة المواطن الذي انتفض من أجل الخبز والكرامة، و لا يجد نفسه معنيّا بهذه المعارك الأيديولوجية والحزبيّة..فلماذا تسعى المعارضة إلى تسييس بعض المطالب الشعبيّة، ولماذا تعمد أطراف من «الترويكا» إلى التعامل مع هذه المطالب وفق مقاربة حزبيّة ضيّقة؟؟ لا بديل عن التوافق. لأنّ الوطن يئنّ مما تعيشه البلاد من مراهقة سياسيّة وتَصَاب أيديولوجي. وقديما قال كمال جنبلاط وهو يرى الخراب يسرع إلى بيروت المقسّمة طائفيّا: إذا خُير أحدكم بين حزبه وضميره، فعليه أن يترك حزبه وأن يتبع ضميره؛ لأن الإنسان يمكن أن يعيش بلا حزب، لكنه لا يستطيع أن يحيا بلا ضمير. [email protected]