لا أحد يتجرأ على المزايدة علينا في المشاركة والمساهمة المتواضعة في النضال ضد الاستبداد والانخراط في الثورة منذ ايامها الاولى. اردنا استهلال مقالنا بهذا التوضيح حتى ننفذ مباشرة ودون تلكؤ الى سمين محتوى كلامنا ودوافعه.
قوّض الشعب بثورته اركان الاستبداد كأداة حكم غير شرعية تكرس الفساد والاستغلال وتحميه. تفككت منظومة الاستبداد مثلما ينفجر «تنين افلام الخيال العلمي» وتبقى اشلاؤه بدون روح ولا حركة وبالتالي بلا قوة.
خرج الاستبداد من جسد المواطنين ابناء الشعب الذين تفاعلوا معه سابقا بأن كانوا اداة له وفي خدمته (أعوان الامن, التجمعيّون...) كما تخرج قوى الشر من جسد ضحيتها في أفلام «الرسوم المتحركة».
كل هذا لا يعني ان لا يستعيد الاستبداد تشكّله وعافيته اذا لم يكن الشعب يقظا ومتربصا. ليس بعودة «التجمع» الذي اصبح في حكم المعدوم بل بأداة الحكم الجديدة التي يمكن ان تجندّ اعوانا جددا من المواطنين والمتسلقين الذين لا يضيرهم ان يكونوا معاول الاستبداد الجديد المحتمل.
التجمعيون ليسوا «سمة شرّ مطلقة» في ذاتهم كما يتراءى لبعض قصيري النظر بقصد ا وبغير قصد. وان الديمقراطية والايمان بها ليست سمة اخلاقية ذاتية مقتصرة على اليساري أو الاسلامي أو القومي الذي كان معارضا اما التجمعي أو من كان تجمعيا مكتوب عليه ان لا يكون ديمقراطيا في اعين هؤلاء حتى ولو اصبح معارضا. انما تكمن الخطورة في أولئك التجمعيين الذين التحقوا ب«السلطة الجديدة» تطبيقا لشعار «مات الملك...
عاش الملك». أولئك الانتهازيون الذين كانوا في الماضي القريب معاول الاستبداد القديم ويعتقدون ان استبدادا جديدا قادم وان عليهم ضمان «مستقبلهم» فيه. هم انفسهم من يقومون الآن بطرد المعتمدين الذين نصّبتهم الثورة ايام الوزير فرحات الراجحي. أولئك الذين يتعاملون الآن بشكل منظم ومنسّق مع العمد لإعادة تشكيل الخارطة المجتمعية المحلية لصالح السلطة الجديدة تحت اشراف رؤسائهم الجدد المعتمدين والولاة الذين شهدوا حركة تعيينات كبيرة دون العمد الذين يملكون بحكم خبرتهم وتجربتهم الطويلة شبكة علاقات محلية واسعة وهم في نفس الوقت منصاعون آليا لأوامر رؤسائهم المعتمدين والولاة أبناء السلطة الجديدة.
ان احتمال عودة الاستبداد مرهون, اذن, بآليات عمل السلطة الجديدة وليس بالمصير السياسي لمكونات الاستبداد القديم الذي أصبح تاريخا جامدا. الغباء كل الغباء هو ان نحارب استبدادا أصبح في طيّ التاريخ ولم يعد سوى مادة للمؤرخين في حين نلتفت عن استبداد يتشكل واقعا بعد الثورة. تلك هي المراهقة السياسية بعينها تمارسها بعض الاقلام التي تبدو في ظاهرها مغرية ومعسولة وفي باطنها انتهازية لا هدف لها سوى تحسس موقع في ركاب السلطة الجديدة.
ان مصير البلاد مرهون بالحيلولة دون عودة الاستبداد ولو عبر صندوق الاقتراع أي ولو في شكل ما يسمى في لغة العلوم السياسية بالاستبداد الديمقراطي الذي يؤبد السلطة في يد أغلبية دائمة ولا يسمح بتداولها. لا يمكن ضمان ذلك إلا بأغلبية مسؤولية مهددة دائما بان تصبح اقلية في مواجهة معارضة قوية وموحدة تتوق دائما لأن تصبح أغلبية حاكمة. ذلك هو التوازن الضامن لممارسة ديمقراطية سليمة. وهذه مسؤولية تاريخية تقع على عاتق كل تونسي غيور على مستقبل بلاده. والتوازن السياسي المنشود هو في صالح الجميع بمن في ذلك الاغلبية الحالية.
كيف السبيل الى ذلك ؟؟
إن المتأمل في نتائج الانتخابات السابقة يلاحظ النسبة الهامة لغير المشاركين فيها التي تجاوزت خلافا لما روّج له أنذاك 50 بالمائة من الذين يحّق لهم التصويت. كما ان الشتات المهزوم الذي لم ينل مقاعد في المجلس الوطني التأسيسي تجاوز قرابة 40 بالمائة من الناخبين. اما القاعدة الانتخابية لكل اعضاء المجلس فلا تتجاوز ال60 بالمائة من الناخبين أي 30 بالمائة من التونسيين الذين يحق لهم التصويت مما يجعل القاعدة الانتخابية «للترويكا» الحاكمة لا تتجاوز 20 بالمائة من الناخب التونسي. الامر الذي لا يضفي الشرعية المطلقة للمجلس بمفرده خاصة عند صياغة الدستور و القوانين الاساسية المنظمة لقواعد اللعبة التي تتطلب استشارات وطنية موسّعة تشمل مكوّنات المجتمع المدني والأحزاب غير الممثلة في المجلس و الشخصيات والأعلام الوطنية التي ينبغي استشارتها و الاستنارة برأيها في خصوص كل الحوارات الوطنية بما في ذلك الجدل حول اقصاء التجمعيين مجددا من الحياة السياسية.
نلتمس من جميع اعضاء المجلس الوطني التأسيسي ان يضعوا جانبا الحسابات الحزبية الضيقة اثناء خوضهم في المسائل المصيرية للبلاد خاصة تلك التي ستحدد قواعد اللعبة التي طالما سيخضع لها الجميع بدون استثناء وقصرا فانه يتعين ان تكون موضوع توافق مجتمعي حتى لا تنفرد فئة من المجتمع بتحديد مصير كل المجتمع. هذا على الصعيد التأسيسي اما على الصعيد السياسي فإن الحصول على التوازن السياسي المنشود في البلاد بين اغلبية و«أقلية قويّة» يفترض بدون أدنى شك خوض المعارضة الحالية المعركة موحدة الصفوف.
وطالما ان الهدف السياسي لهذه المرحلة هو انجاح عملية التداول السلمي على السلطة و في ذلك نجاح للمسار الديمقراطي في البلاد لتفادي الوقوع في ظاهرة «الاستبداد الديمقراطي» و بقطع النظر عن من يحكم فإنه يتعيّن على المعارضة الحالية بكل أطيافها هذا قدرها اذا ارادت الحياة نكران الذات والتوحد في جبهة واسعة استعدادا للاستحقاق الانتخابي القادم. ذلك لان أطياف المعارضة الحالية والحديث موجه إلى من يرى نفسه في صف المعارضة اما من يرى نفسه في صف السلطة دون ان يحكم فلا يشمله حديثنا أحزابا و ائتلافات حزبية على جديّتها غير قادرة منعزلة الواحدة عن الاخرى على النجاح.
يتعين على المعارضة ان تبحث عن قاسمها المشترك و ناظمها دون ان تنزع عن احزابها وائتلافاتها قوتها الذاتية المكوّنة لقوة المعارضة نفسها والتي ستتضاعف بتوحدها. يمكن «لنداء تونس» ان يكون قاسما مشتركا و ناظما لوحدة المعارضة دون ان ينزع عن قيادة احزابها و ائتلافاتها حقها في ادارة الاستحقاقات الانتخابية وتفعيلها على قاعدة هاجس واحد هو انجاح التداول السلمي و تحول الاقلية المعارضة «موحدة» الى اغلبية حاكمة و مسؤولة تحفّز المعارضة القادمة على العمل لتصبح أغلبية من جديد و هكذا دواليك.
ان شرعية «نداء تونس» في ان يتقمص هذا الدور تتأتى من أمرين على الاقل الاول هو ان صاحب المبادرة توافق عليه التونسيون و سلموه امانة ادارة المرحلة الانتقالية وهو فوق الاحزاب من دون ان يحل محلهم ودون ان يقوم بدورهم ثم إنه لا احد يستطيع ان يسلب عنه شرعية حسن انجاز عملية الانتقال الديمقراطي المشهود بها من الجميع أقلية و معارضة. فحيّ على الفلاح. والله وليّ التوفيق.