منذ اليوم الأول لاستلام الائتلاف للحكم، أو على الأصح حزب النهضة، والأحداث الشاذة والغريبة تتلاحق أمام أنظار الشعب التونسي، مما جعل الكثير يزداد ريبة في نوايا هذه الحكومة، رغم انها حكومة مؤقتة ولاشك في أن القارئ يفهم ما أعنيه بالأحداث الغريبة، لأنها كانت صارخة باستفزازها للمواطن التونسي. ولكن لمن يريد أن يتجاهل هذه الأحداث رغم خطورتها ورغم تكرارها... أذكّره ببعضها، مثل: تهوّر جماعات سلفية تدوس حرمة الجامعات والمعاهد وتعتدي على إطاراتها، دون ان يردعهم رادع، الى أن بلغ بأحدهم حدّ انزال العلم «رمز الوطن» ليضع مكانه خرقة سوداء، ثم نسمع من بعض المسؤولين تبريرا لهذه الفعلة الشنيعة، ولما استنكرها كل الشعب التونسي بمختلف توجهاته، تقع محاكمة صورية للجاني بعد شهور لتطييب الخواطر، ويصدر عليه أخف الأحكام «سرسي» وقائمة التجاوزات التي تدلّ على الانحراف عن أهداف الثورة، ليس هنا موقع إحصائها...
ولكننا في هذه الايام بلغنا مرحلة حرجة لم تعرفها تونس الحديثة من قبل... في الوقت الذي كانت فيه بلادنا مثالا للاعتدال، فبين عشية وضحاها أصبحت منابرها مجالا رحبا وأرضا خصبة لدعاة السلفية والتطرف الديني، من بينهم داعية ظلامي يتسلل الى بلادنا ويحرّض على ختان البنات، وهو فعل اجرامي وحشي لا يختلف عن «الخصيّ» الذي كان يمارس في عصور الظلام ضد الانسانية..
جريمة أخرى باسم الاسلام، كادت ان تقع في هذه الايام وهي محاولة قطع يد سارق في ولاية بنزرت من طرف بعض السلفيين. حادثة أخرى خطيرة جدّا لها بعد مأساوي تضرب الحريات في الصميم، وتملأ النفس تشاؤما على مستقبل بلادنا تمثلت في إقدام أشخاص متهورين استعملوا العنف لمنع عرض كتب في معرض للكتاب بسكرة وإجبار زائريه على مغادرة المعرض.. والله أعلم بما هو آت من مفاجآت مرعبة..
قبل ان نندد بتجاوزات أخرى تؤشر بمخطط يهدف الى اخراج بلادنا من صورتها المشرقة والمتوازنة الى مصير مجهول، او لعله نفس المصير الذي يعيشه المواطنون في كل من أفغانستان وإريتريا والسودان وما شابهها من مجتمعات شغلها الشاغل هو «الاقتتال». الآن آتي إلى الاستفسار عن دور من في أيديهم سلطة الأمر والنهي، ولا أعني سوى الحكومة، لماذا لا تقوم هذه الحكومة بواجبها في حماية الوطن من هذا الذي يهدد بتدمير ما تم بناؤه في نصف قرن؟
والسؤال الذي يفرض نفسه بعد الاستفسار الأول هو : هل هذه الحكومة عاجزة عن استتباب الأمن للمواطن؟ وإذا كانت كذلك فلماذا لا تستقيل؟ أما إذا كان موقفها هذا من منطلق حرية التعبير والديمقراطية المتعطش لها المواطن التونسي، نقول لهذه الحكومة المؤقتة، عليها أن تدرك أن حرية التعبير لا يمكن أن تمارس أو تعامل بمكيالين، وكذلك لحرية التعبير ضوابط وخطوط حمراء لا توجب غرس الهمجية بين المواطنين.
إن السيناريو الذي أتوقعه في حالة عدم استقالة الحكومة، أو في عدم تحمل مسؤوليتها في حفظ الأمن بالصرامة الواجبة واللازمة فإنه ليس بعيدا أن يستخدم الليبراليون والعلمانيون وكل طلاب الحرية والديمقراطية الأسلحة والعنف وكل الأساليب المحظورة التي يستعملها السلفيون المتطرفون.
وأقول لمن يريد أن يحجب الشمس بالغربال كما يقول المثل الشعبي لست ممن يثير الفزع في نفوس المواطنين، أو أني أصطنع فزاعة من فراغ، كلا، لأن تاريخهم الطويل ملطخ بالدماء نحن لا نتمنى لتونس ولشعبها إلا السلامة والرخاء... ولكننا نحذر من يفكر في تغيير علمنا الأحمر بخرقة سوداء، أن تونس بلغت مرتبة من التحضر لا سبيل إلى التخلي عنها.
في الأيام القليلة الماضية سمعنا تصريحات مقتضبة من مسؤولين في الحكومة تعد بردع هؤلاء الشرذمة من المنحرفين.. وإن مثل هذه التصريحات أعادت الأمل بالاطمئنان إلى نفوس بعض المتفائلين... ولكن من لم يطمئن قلبه تماما، وينطبق عليه قول : «لا يلدغ المسلم من جحره مرتين» يريد مع تلك التصريحات أفعال حازمة ومواقف صارمة ، على غرار ما نشاهد من نشاط منقطع النظير لم نعرفه حتى في أشد الأزمات المالية في عهد حكم بن علي، القائم في إدارة أعوان الجباية... كنت أتمنى لو كانت هذه الحملة الجبائية الشبيهة بالحملة المعروفة بحملة «زروق» التي أرهقت الشعب التونسي في القرن التاسع عشر، على الانفلات الأمني من قبل المنحرفين، قبل أن يستفحل أمرهم...
ما ذكرته سوى تمهيد لما أردت أن ألفت انتباه الحارسين على سلامة وطننا إلى تصرفات أكثر شناعة قام بها قادتنا الجدد، قد يراها البعض جزئيات بسيطة وعابرة، وقد يراها الكثيرون مثل ما أراها أنا، بوادر بالغة الخطورة...جعلتني أتساءل في حيرة شديدة :
إلى أين نحن سائرون؟... أو إلى أين يسيرون بنا؟
أتساءل بعد أن أفزعتني سابقة لم أكن أتخيّل وقوعها في بلادي، رغم أني لم أشاهدها، ولكن أكد لي وقوعها أكثر من صديق، ومضمونها هو الآتي: أول رئيس للجمهورية في عهد الثورة يقبل أن تلثم يده، كما تقبّل الحاشية أيدي الملوك في البلدان المتخلّفة.. فيظهر كأنه شيخ طريقة صوفية يقبّل مريدوه يده.. سابقة أخرى أكثر هلعا، فحواها: أن زعيم حزب النهضة ومنظّرها، الذي ادّعى في الحملة الانتخابية لحزبه أن الحداثة لا تتعارض مع الشريعة الاسلامية، نجده يستمتع بدعاء الإمام، وهو يقول له «رضي اللّه عنك»..
هل هؤلاء هم قادتنا الجدد الذين يكرّسون لنا عقلية جديدة، وسلوكا حضاريا متطورا، وهو ما كنا نطمح إليه بعد مرحلة الثورة لتحقيق الديمقراطية والكرامة..؟ خلاصة القول إن ما أريد التنبيه إليه، وما أخشاه ويخشاه الجميع، هو الفتنة الشاملة، أي الحرب الأهلية، لأن مجتمعنا التونسي المدني لن يقبل الأمر الواقع المستورد من مناطق الجهل والأمية.