قدّم الدكتور أبو يعرب المرزوقي ردّا على من يسمّون أنفسهم النخبة المدافعة عن الحداثة والديمقراطية في تونس ويعلنون تحت هذا الغطاء رفضهم لتوافد بعض الدّعاة من المشرق إلى أرض تونس. «الشروق» تنشر نصّ رسالة المرزوقي إلى هؤلاء، وهي رسالة مبوّبة في خمس نقاط جمعت بين البيان وقوّة الحجة والقدرة البالغة على الإقناع وحتّى الإفحام: «أولا ينبغي أن نشير إلى أمر إيجابي من بعض الوجوه في زوبعتهم التي بلغت حد السخف فصار دعاة السحاق واللواط والمثلية إلخ... من الوسطيين في المعارك القيمية، ألا تراهم قد أصبحوا من المدافعين عن الوسطية في المعتقدات الدينية رغم تطرفهم في المعتقدات العلمانية التي هي العلة المغذية للتطرف في المعتقدات الدينية في بلادنا ؟ وهذا إيجابي إلى حد كبير لأنهم إذا كانوا منطقيين سيفهمون خطأ محاربة كل الذين يحاولون تجنيب تكرار ما حل بتونس بسبب سياسة التحديث المستبد وتجفيف المنابع. فالقضاء على الزيتونية وعلمائها الذين صاروا اليوم يذكرونهم بكل خير ويعتبرونهم المصدر الناجع للرد على فكر غنيم مثلا يمكن أن يتكرر إذا واصلوا شيطنة الفكر الذي تدافع عنه حركة النهضة مثلا تمهيدا لبديل لعل فكر غنيم من بعض مظاهره. ثانيا ينبغي أن نشير إلى أمر شديد السلبية عن حال فكر هؤلاء اليتامى الذين كانوا مدللين في عصر التحديث المستبد بالحرب على كل مقومات روحانية هذا الشعب، فبدلا من السؤال عن علل القبول الذي يلقاه فكر من جنس الفكر الذي يمثله غنيم بين شباب تونس والتصدي لهذه العلل يلجؤون إلى تحميل الحكومة مسؤولية استدعاء الدعاة الشرقيين لكأن الأمر يتعلق بعرض الداء بدل الداء نفسه، فسياسة تجفيف المنابع التي هم محاموها الأشاوس هي التي تفسر هذا الظمأ عند الشباب لمثل هذا الفكر الذي ليس هذا محل مناقشته المضمونية. ثالثا: كما ينبغي أن نشير إلى أن حماستهم أفقدتهم الصواب فذهبوا إلى القطرية المتطرفة في المعتقدات الدينية لكأن الحدود السياسية كانت يوما حدودا للفكر والثقافة فضلا عن المعتقدات، فهل يعقل أن يدّعي أحد أنه ينبغي ألا تدعو الجمعيات التونسية التي ليست من جنس جمعياتهم العلمانية إلا من يقول بما يسمونه الإسلام التونسي؟ أين حرية الرأي وحرية المعتقد ؟ أين تعدد الآراء والحوار بينها؟ لو صح قولهم ولم يكونوا متناقضين فيه لكان حكمهم كذلك على الجمعيات العلمانية ألا تدعو إلا من يقول بما يمكن أن يسموه العلمانية التونسية رغم تسليمنا بأنها أغبى العلمانيات وأقلها فهما للعلمانية وأشدها تطرفا لأن أصحابها يقولون بعقدية التحديث المستبد ورديفتها،أعني تجفيف المنابع.رابعا: كما ينبغي أن نعجب من خلطهم بين قضيتين مختلفتين تمام الاختلاف: -فحضور أفكار مختلفة من جنس فكر غنيم في مجال الفكر العام في تونس من مشمولات حرية التعبير التي لا جدال في كونها تشمل كل الأجناس ولا تقتصر على فكرهم. - ومضمون هذا الفكر من مشمولات ما يقبل ويرد من المعتقدات تماما ككل فكر ما لم يعتد على القانون كأن يكون صاحبه من دعاة العنف أو التفرقة العنصرية. ولو جاء الحكومة التي تؤمن حقا بحرية التعبير وتحاول أن تدافع عن حق الكل في الاستماع إلى الآراء المختلفة، لو جاءها ما يفيد أن في آراء غنيم أو غيره ما يدعو إلى العنف أو إلى التفرقة العنصرية لقامت بالإجراءات القانونية التي يقتضيها المقام. خامسا: وينبغي كذلك أن نسأل هؤلاء الحريصين على تونس وخصوصيتها الدينية عن علل غيابهم سابقا لما كانوا على كراسي مؤبدين فيها طيلة حياتهم الفكرية المزعومة أعني منذ أن ربطوا الخيوط مع المافيات التي كانت تعينهم في أكثر من مسؤولية رغم عجزهم المعروف للجميع لكونهم يخلطون بين الظهور بمظهر من يعمل والعمل الحقيقي. وختاما فإني أتساءل حقا وأعجب أيما إعجاب بإدمان هذا الجنس من المفكرين على ال«فايس بوك» وعلى «تويتر» للتنبير على الحكومة وتحميلها ما لا دخل لها فيه إلا إذا اعتبرنا حرية الجمعيات مما ينبغي منعه مطالبين إياها بأن تتصرف تصرف النظام الذي كان يدللهم فتقمع كل ما لا يعجبهم من فكر ومعتقد متخلين عن مبدإ حرية التعبير وحرية هيئات المجتمع المدني... يريدون من الحكومة أن تتدخل لتمنع ما لا يعجبهم وأن تتدخل فتفرض ما يعجبهم من فكر لمجرد كونهم يدعون تمثيل العقلانية والحداثة. لذلك فكل ما سبق ذكره ليس إلا من علامات إفلاس هذا الرهط من النخب التي كانت تتمعش من ولائها للنظام السابق، ولائها الذي أغناها عن العمل الجدي فلم يبق لهم إلا التنبير بعد أن فقدوا من كان يوظفهم في التبندير.»