قبل عام ونصف كان من الممكن تفهّم ظاهرة حرق المؤسسات في تونس فتلك كانت أبرز مؤشرات التمرّد على بن علي وربّما كان القمع الممنهج لنظامه مبررا لارتكاب تلك الافعال. أمّا اليوم والبلاد تعيش مرحلة ثانية من الانتقال الديمقراطي بعد تنظيم انتخابات يشهد العالم بأنها كانت ديمقراطية ونزيهة وشفّافة يصعب تفهّم عودة مشاهد حرق المؤسسات إلى الشوارع التونسيّة. لماذا عاد هذا المشهد للظهور؟ وماهي دلالات الاعتداء على مؤسسات السيادة بالحرق؟ وما هي مبرراته النفسيّة والاجتماعية؟ وما طبيعة الحلول التي بالإمكان تقديمها لإنقاذ مؤسسات التونسيين من الحرق والإتلاف؟ المحارق عبر التاريخ
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة حاولنا النبش في التاريخ بحثا عن دلالات للمحارق فتعثّرنا بأكبر محرقة تاريخيّة كانت مغمّسة في السياسة وتأذّت منها الإنسانيّة بشكل كبير. تلك المحرقة قادها الإمبراطور الصيني شي هوانغ تي عام 212 قبل الميلاد حين أحرق وأتلف مئات الدراسات التاريخية والأدبية والقانونية وطارد الأدباء والعلماء في صحاري الصين وجبالها ولاقى كل من قبض عليه المصير نفسه. وكانت تلك أكبر وأشمل محرقة للكتب لأنها لم تقتصر على مفكر معيّن أو أديب أو مؤرخ بل طالت كل الكتب التي سبقت عهده علما وأنّ هوانغ تي يعتبر من أهم الشخصيات التي عرفتها الصين وتنسب إليه إنجازات حضارية وعسكرية وسياسية كبيرة. فهو الذي شجع على البدء في بناء سور الصين لوقف هجمات المغول (التتار) من الشمال بحسب ما يرويه المؤرخون.
وفسّر الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل تلك المحرقة برغبة الامبراطور في « تقوية أسرته الحاكمة عن طريق هدم وتدمير ذكرى الأسر الحاكمة السابقة» فالحرق بالنسبة له كان إلغاء للسابق والبدء من جديد انطلاقا من النقطة صفر.
كل الروايات التي تعثّرنا بها كانت ذات طعم سياسي الغاية منها مبارزة سياسيّة وإن على حساب الانسان والوطن وفي تونس شهد التاريخ أنّ محرقة المؤسسات في الأيّام الأخيرة من 2010 كانت بدورها ذات طعم سياسي الغاية منها تقويض نظام بن علي وزعزعته بل والتخلّص منه بشكل نهائي. الحرق فعل ثوري
قاد تلك المحارق مجهولون وصفهم الرئيس السابق في خطابه الثاني ما بعد اندلاع الاحتجاجات الاجتماعيّة ب«العصابات الملثّمة» ووجد لهم الناس عذرا للحرق والتدمير فتلك كانت أولى خطوات التمرّد على بن علي ونظامه البوليسي.
«كانت الظاهرة جديدة على المجتمع التونسي وقد بلغت مداها أثناء الثورة إذ تمّ استهداف المقرّات الأمنيّة ومقرّات الحزب الحاكم وغيرها من المؤسسات وكان وراءها دوافع ورسائل تختلف عن محارق ما بعد الثورة» هكذا يقول الأستاذ طارق بلحاج الباحث في علم الاجتماع السياسي.
منذ ذلك الحين اعتبر المخيال الشعبي التونسي الحرق فعلا ثوريا واستهداف مؤسسات الدولة بالحرق نوع من الثورة عليها في رمزيّتها المتعلّقة بالقهر والتسلّط والظلم فهي لطالما مثّلت بالنسبة للناس أدوات لاحتقارهم واهانتهم وتركيعهم وحرقها يعني التشفّي منها بعد فقدان الامل في اصلاحها فالحرق هو آخر دواء في ثقافتنا الاجتماعيّة بحسب بلحاج. ومن آثار الحرق، تماما كما فعل الامبراطور هوانغ تي، هو المحو من الوجود وكأنّ من يحرق المؤسسات يريد محوها من الوجود ومحو تاريخها الظالم من تاريخ هؤلاء وفي أذهان الناس ارتبطت بالتطهير وليس أقوى وأجدى من الحرق للتطهير الجذري.
بعد الثورة وبعد خطو مسافة إلى الأمام في اتجاه البناء الديمقراطي وصياغة دستور جديد للبلاد من المفترض الانتهاء من كتابته في 23 أكتوبر القادم اندلعت المحارق بشكل مفاجئ لتأتي مجددا على مقرّات السيادة فشملت مراكز أمنيّة ومحكمة ومؤسسات أخرى حكوميّة. سياسة الأرض المحروقة
لم تعد تلك المحارق بالنسبة لطارق بلحاج فعلا ثوريا بل هي فعل إجرامي الغاية منه التعبير على أقصى درجات الاحتجاج والرغبة في الإيذاء والتدمير لأسباب مختلفة منها المطلبيّة ومنها السياسيّة والاجراميّة. ومع الزمن تحوّل الحرق إلى الطريق المفضّلة لدى شريحة من الناس للتعبير عن مواقفها الغاية منه إمّا التعبير عن السخط تجاه الدولة أو لترهيب طرف اجتماعي معيّن أو لارتكاب أفعال إجراميّة.
كل هذه الاسباب تصب في خانة العبث بالأمن النفسي والاجتماعي مهما كانت المبررات والسياقات الاجتماعيّة قبل وبعد الثورة فإن التعبير والانتقام عبر الحرق يخفي وراءه اضطرابات نفسيّة أولا وأمراض في الثقافة الاجتماعيّة السائدة ثانيا.
على المستوى النفسي يُعتبر الحرق مؤشّر خطر من مؤشرات عدم السواء النفسي فمن يقوم به عادة أشخاص ذوو طبيعة حادة من العدوانيّة تصل إلى درجة النوازع الاجراميّة مهما كان عنوانها فالتلذّذ بمشاهد الحرق وإيذاء الآخر هو أقصى درجات الساديّة.
أمّا اجتماعيّا فيرى بلحاج أنّ الثورة تُخرِج في المجتمع أسوأ ما فيه وأروع ما عنده في الآن نفسه ففي تونس كان أجمل ما في التونسي سلوكه أثناء الثورة وبعدها أخرج أبشع ما فيه من عدوانيّة وإجرام وقدرة عالية على تدمير الذات والآخرين الأمر الذي قد يقود إلى تدمير مؤسسات الدولة.
وقد ثبُتَ بحسب بلحاج أنّ هناك صورة نمطيّة على وداعة التونسي وسماحته يجب القطع معها فالتونسي ليس وديعا مسالما مثل كل اللقالق كما يُروّج لذلك. «لا يحرق بالنار كان العالي الجبّار» هذه واحدة من مقولاتنا الشعبيّة كثيفة الاستخدام على حدّ قول بلحاج وهي نابعة من صميم ثقافتنا لكن الحروب غير الشريفة تُسمّى سياسة الأرض المحروقة. كما قال محدثنا إنّ البعض من التونسيين لم يكتسب من قبل أيّة ثقافة للاحتجاج لذلك ترسّخت في ذاكرته مشاهد الحرق وأصبحت الثقافة الوحيدة للاحتجاج.