فيما يلي قراءة سوسيولوجيّة للظاهرة يقدّمها الاستاذ طارق بلحاج المختص في علم الاجتماع السياسي:«يذهب في ظن الكثيرين أن الخطاب والعمل السياسي هما نقيضا الأخلاق وهذا تصور فيه الكثير من القصور. فالعمل والخطاب السياسي لا يجب أن يخلوا من البعد الأخلاقي وإلا تحولا إلى نوع من التجارة غير الشريفة بآمال وآلام الشعوب. فالسياسة الحقيقية هي السياسة التي تقوم على الحد الأدنى من المبادئ والأخلاقيات والقيم وعلى جملة من التوجهات والبرامج والأهداف... تصب كلها في إطار خدمة المصالح الوطنية والاجتماعية الكبرى والتي على السياسيين احترامها والالتزام بها عند صعودهم إلى الحكم.
ما نلاحظه اليوم في مستوى الخطاب والسلوك السياسي ليس متطابقا تماما مع هذا التعريف وخاصة مع تزايد وتعمق حالة الاحتقان بين الأطراف السياسية وصلت إلى حد حالة من الاستقطاب الحاد، سواء تعلق الأمر بمسألة الحكم في الحاضر أو في إطار التحضير للعملية الانتخابية المقبلة.
في مستوى الخطاب السياسي
إن المتأمل في الخطاب السائد اليوم على الساحة السياسية والإعلامية يمكن أن يرصد بدون عناء كبير أن هذا الخطاب يغلب عليه طابع التشنج وعدم الانضباط وتجاوز لأعراف التنافس السياسي المعقول. خطاب فيه شحنة كبيرة من الكراهية وعدم الرغبة في الاعتراف بالآخر المختلف يبلغ حد التلاسن العلني في وسائل الإعلام والسباب والتخوين وتبادل التهم والتجريح الشخصي والادعاء بالباطل والتكفير والتشكيك في النوايا والولاءات مرة باسم الشرعية ومرة باسم الحرية ومرة باسم الدين..... انه خطاب يعكس الحالة الحادة من عدم القدرة على التعايش وغياب روح التنافس الشريفة والموضوعية التي تتسم بها عقلية التداول السلمي على السلطة. فإذا كان هذا حال نخبنا السياسية التي تمثل نظريا العمود الفقري لأي عملية انتقال ديمقراطي، فلا نستغرب كثيرا من الانفلات اللغوي الموجود لدى شرائح واسعة من المجتمع التي كانت ضحية هذا الاستقطاب أو رهينة له إما لأسباب تتعلق بمسالة الحكم أو لأسباب انتخابية. فكلما قربت المحطة الانتخابية ساد الخطاب الشعبوي والتحريضي والسطحي لتجنيد قاعدة انتخابية عريضة.
في مستوى السلوك السياسي
إن النجاعة والرغبة في النجاح والحكم لا تعني أبدا التخلص من أي قيد أخلاقي لتحقيق هذه الغايات بأي ثمن. فالسياسة التي تقوم على الخطاب الشعبوي والزيف والتجارة بآلام وآمال ومخاوف الناس لا يمكن أن تعمر طويلا خصوصا لدى شعب قام بثورة على مثل هذه السلوكيات وهذه العقلية. فالسلوك السياسي اليوم يقوم على الغوغائية (من يصرخ أكثر؟) وعلى نوع من العلاقة الزبونية rapport de cléantélisme بين السياسي والمواطن (إعانات اجتماعية بعناوين مختلفة-وعود- محاباة في المصالح- تجنيد أنصار بمقابل مادي ...) وهو سلوك يمكن أن يضر بالثقافة السياسية برمتها ويسيء إلى كرامة وذكاء التونسيين .
الأسباب: يعود هذا النوع من السلوك والخطاب إلى: غياب ثقافة الحوار الديمقراطي عن الفاعلين السياسيين الموجودين على الساحة الآن وحتى داخل نفس الحزب. يترافق ذلك مع حساسية مفرطة تصل إلى حد التشنج والعداء لكل منتقد للأداء حتى ولو كان على صواب
العقلية الاستبدادية وأمراض الزعامة والعصمة الراسخة في أذهان سياسيينا والقائمة على التفرد بالرأي ونفي ورفض وجود الآخر المختلف معنا سياسيا واحتكار الحقيقة المطلقة الخلط بين الاختلاف والتنافس كمفاهيم سياسية ديمقراطية واستبطان الصراع والعداء مع كل من يخالفنا الرأي الرغبة في الوصول إلى الحكم واسترضاء الناخبين بأي ثمن لأدراك مقاعد السلطة في اقرب وقت ممكن دون مراعاة المصالح الوطنية والاجتماعية العليا. إذا استمر الفاعلون السياسيون الحاليون في استعمال هذا القاموس وإذا أصروا على هذا الأداء فإنهم سيكونون اكبر عقبة في عملية الانتقال الديمقراطي في تونس وبذلك ستتحول هذه الطبقة السياسية إذا لم تنتبه إلى أخطائها وأدائها المرتبك والمخيب للآمال إلى عبء تاريخي على شعبها وثورته.