وسط تأزم الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية الاجتماعية وتفاقم وتائر العنف والإرهاب المهدد لنجاح الانتقال الديمقراطي والمؤذن بجنوح سفينة الثورة وهلاكها بعد طول ترنح يطل في المشهد السياسي مشروعان يدعيان إنقاذ السفينة وتحقيق أهداف الثورة. أما المشروع الأول فيمثله الإسلام السياسي بقيادة النهضة وحلفائها في الحكم من حزب المؤتمر (شق محمد عبو) والتكتل (في شخص مصطفى بن جعفر والبقايا من غير المنشقين من حزبه) وحلفائها الموضوعيين من حزب التحرير والتيارات السلفية (العلمية والجهادية والإصلاحية).
أما المشروع الثاني فرمزه بورقيبة وتوجهه الفرنكفوني بقيادة السبسي وحلفائه المصلحين من دساترة يتامى بورقيبة وتجمعيين وصوليين أجرموا في حق الشعب والوطن وبقايا اليسار الطفولي والمطبعين مع الصهيونية.
يزعم أصحاب مشروع الإسلام السياسي أنهم أولى من غيرهم بقيادة البلاد فهم مسلمون في بلاد شعبها مسلم ويمتلكون الشرعية الدينية والشرعية والانتخابية على حد سواء إضافة إلى الشرعية السجنية.
أما بخصوص البرامج فإن الإسلاميين وان اختلفوا في تبني الديمقراطية فآمن بها البعض (النهضة) وكفر بها البعض الآخر (السلفيون وحزب التحرير خاصة) فإنهم يتبنون نظاما اقتصاديا «اسلاميا» دعامتاه الصدقة والزكاء بفضلهما يتحقق العدل والمساواة بين الطبقات بين الجهات الخ... وغني عن القول أن هذا المشروع يتقيد بالشريعة والدين ويهدف إلى إقامة دولة الإسلام هي دينية صريحة عند حزب التحرير والسلفية وهي «مدنية» عند الإخوان المسلمين والنهضة.
ويخالف أصحاب المشروع البورقيبي الفرنكفوني الإسلاميين الرأي والطرح ويذكرون الجميع بمآثر بورقيبة الشخصية وإنجازاته السياسية والمجتمعية في بناء الدولة الوطنية وتعميم التعليم ومجانيته وتحقيق الصحة المجانية للجميع وتحرير المرأة والإيمان بالديمقراطية والحداثة والسعي إلى تجسيد العدالة الاجتماعية ويتبرأ البورقيبيون من انحراف الرئيس المخلوع وينبهون إلى أن حكم بورقيبة ولاسيما قبل هرمه هو النموذج الأصل.
يبدو المشروعان مختلفين اختلافا جوهريا علاوة على مثالية كل واحد منهما الأمر الذي يزيد المواطن حيرة وبلبلة إزاء أي المشروعين أفضل وانسب في هذه اللحظة؟ إن نظرة متفحصة لجوهر هذين المشروعين كفيلة بتوضيح الفروق هل هي جوهرية عميقة أم شكلية سطحية؟
شكليا : يدعو الإسلام السياسي إلى دولة ذات مرجعية دينية تؤمن بالعدل والمساواة متشبثة بهويتها الاسلامية في حين ينادي المشروع البورقيبي بدولة مدنية عصرية ديمقراطية تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة هويتها عربية مسلمة.
جوهريا : 1 المشروعان يدعوان إلى نماذج من الماضي تحققت عند الاسلام السياسي في دولة الخلافة الراشدة وتجسد نموذجها عند البورقيبيين في دولة بورقيبة الرائدة. وهكذا يغيب المستقبل وأهداف الثورة إزاء الحنين إلى الماضي وتقديسه عند الفريقين.
2 المشروعان يقدسان الأشخاص والزعامات لا المقدس والأفكار، فبورقيبة الزعيم الأوحد والأول والآخر والمجاهد الأكبر عند البورقيبيين من ناحية وعلماء الدين والفقهاء والمفتون والمفسرون المجمع عليهم لا المخالفون رجال مقدسون وسلف صالح ومرجعية دينية عليا بلغت درجة النبوة وحازت مراتب الكمال والعصمة وتطلبت الإتباع بلا نقد أو مخالفة عند الإسلاميين من ناحية أخرى.
3 المنوال الاقتصادي والاجتماعي عند البورقيبيين رأسمالي اجتماعي يرفض غلو الرأسمالية المتوحشة وينفر من الاشتراكية التي ثبت فشلها في تجربة التعاضد بزعمهم وهذا المنوال عينه هو بديل النهضة الصريح في برنامجها ذي ال 365 نقطة وقد جاء في النقطة 17 منه «تتبنى الحركة اقتصادا حرّا ذا بعد اجتماعي يقوم على التكامل بين القطاعات الثلاثة الخاص والعام والتعاوني...»
وهو أيضا بديل بقية التيارات الإسلامية وان ضمنيا فحركات الإسلام السياسي تجمع على رفض الشيوعية والاشتراكية وتختلف شكليا في تبني الرأسمالية بين التصريح والسكوت وتكتفي بالتغطية عن الأمر بكلمة اقتصاد «إسلامي».
4 دكتاتورية المشروعين وأن بالغ بعض مكوناته في رفع شعار الديمقراطية والتمسك به فبورقيبة حاكم أوحد أقصى المخالفين حتى من حزبه والباجي احدهم وقتل المنافسين(اليوسفيين) وثوار قفصة 1980 وسجن الكثيرين من المعارضين وشردهم وعذبهم وارتضى أن يكون رئيسا مدى الحياة. أما الإسلام السياسي فحدث ولا حرج ويكفي أن نذكر ألوف الفقراء والجائعين الذين قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف بسبب ما نسب إليهم من سرقة في السودان وما يلقاه السعوديون الفقراء والمهمشون من إقامة حدود من قطع اليد وضرب العنق في حين يرتكب بعض الأمراء والأثرياء من الموبقات ما لا يحتاج إلى دليل بدون عقاب ولا ننسى المشانق التي نصبت للمواطنين في إيران باسم الثورة وتطبيق الحدود وفق الشريعة الإسلامية.
5 فقدان المشروعين للبديل الثقافي، فالبورقيبية منبهرة بالغرب الليبرالي الفرنكفوني كرست التبعية الثقافية والانبتات الحضاري وعملت على تجفيف المنابع وتهميش الدين ومقومات الهوية العربية الإسلامية في التعليم وفي الإعلام ومجالات الثقافة.
أما الإسلام السياسي فإنه يرفض الغرب مطلقا ويدعو إلى أسلمة الثقافة وتقديس التراث دون نقد أو اجتهاد. وهكذا نصل إلى حقيقة واضحة ألا وهي أن المشروعين متفقان جوهريا وأنهما وجهان لعملة واحدة.
وهو ما يستدعي فرز قوى الساحة السياسية لا على أساس العناوين والشعارات وإنما على أساس البرامج والتوجهات، وهذان المشروعان أي الإسلام السياسي والبورقيبية الفرنكفونية مرفوضان لكون أحدهما ينصب نفسه سادنا لهيكل الاسلام السياسي المقدس بدون حق فالإسلام ملك مشاع لجميع المسلمين يرفض الوصاية والكهانة ويحث على الحرية والاجتهاد والتسامح. أما المشروع البورقيبي فليس سوى وثنية قديمة جديدة مازالت تقدس البشر وتنصبهم باباوات ولاهوتا في عصر كفر بالوثنية والوثنيين.
لذلك فإن تحقيق أهداف الثورة موكول إلى الثوريين وحدهم فالثورة لا يصنعها إلا الثوار أولئك الذين يؤمنون حقا بالديمقراطية الاجتماعية ويرفضون الزعامات الفارغة والرأسمالية اجتماعية كانت أو وحشية لأنها نظام استغلال ونهب للشعوب وتفقير وتعميق للفروض الطبقية وزرع للكراهية وفرض للهيمنة الإمبربالية.
إن الوضع الحالي يتطلب اتحاد القوى الثورية الوطنية والعروبية والتقدمية ووضع حد لتشتت كلمتهم وانخرام صفوفهم حتى يحرموا قادة الثورة المضادة من استغلال الفراغ وملئه.
إن مستقبل الثورة في تونس بيد قوى المستقبل لا الماضي والقوى الديمقراطية لا الدكتاتورية وقوى العدالة الاجتماعية أو الاشتراكية هؤلاء وحدهم يحق لهم أن يخاطبوا الشعب ويقودوه، أما من ثبت في التاريخ ولوغه في دماء الشعب وعبادته للوثن وسدانته للماضي فحريّ به أن يتوارى قبل أن يجبر على الاختفاء.