تمّ في الفترة الاخيرة طرح مشروع قانون للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، شارك في تصوره ثلاث منظمات عتيدة، هي الاتحاد العام التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين، والرابطة التونسية لحقوق الانسان، بحضور ممثل عن هيئة الخبراء. ونحن إذ نبارك اقدام هذه النخب الممتازة من المجتمع المدني على تقديم هذا المقترح لإثراء الحوار داخل المجلس الوطني التأسيسي، وحده المؤهل للحسم في المسالة بوصفه أعلى سلطة منتخبة في البلاد، الذي يستعد هذه الأيام لمناقشة مشاريع أخرى لبعث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لعل أبرزها مشروع الحكومة المنتظر، فإننا نسجل بكامل الغرابة تغييب الخبراء المحاسبين عن المشاركة في هذه المبادرة، وعدم تشريك عضومنهم في تركيبة الهيئة المزمع إحداثها.
أسجل هذا الموقف ليس من منطق المحاصصة المنظماتية ( قياسا على المحاصصة الحزبية) ولكن من منطلق ما قام به الخبراء المحاسبون من مجهودات كبيرة، وما أظهروه من قدرات علمية وحيادية تامة خلال مشاركتهم في أعمال الهيئة التي أشرفت على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، سواء بالهيئة المركزية أوبمختلف الهيئات الفرعية عندما أشرفوا مع بقية الأعضاء على إنجاح الانتخابات انطلاقا من تسجيل الناخبين وانتهاء بعمليات الفرز وتعداد الأصوات وتدوين النتائج بالمحاضر. فعلى عكس ما يظن البعض فإن تكوين الخبير المحاسب الاكاديمي في مختلف أنواع القوانين يفوق تكوينه في مجال المحاسبة بكثير، فإلى جانب المامه الشامل بالقانون المحاسبي والمالي، فهوخبير بالقانون الجبائي، والقانون المدني، والقانون التجاري، والقانون الجنائي، والقانون الاداري، فهوقادر على قراءة القانون قراءة جيدة وفهم مدلولاته وتحليل المبهم أوالمتشابه منه، هذا إضافة الى إطلاعه على أغلب القوانين الخاصة المنظمة لأكبر القطاعات المالية والاقتصادية، كقوانين المعاملات البنكية، والتأمين، والديوانة، والضمان الاجتماعي، وقانون الشغل، وذلك بحكم ممارسته لمهمة مراقبة الحسابات لدى المؤسسات العامة والخاصة الناشطة في هذه القطاعات، والتي تتطلب اتقانا لكل هذه القوانين، وكذلك بحكم تعامله مع رجال القانون من قضاة ومحامين وعدول تنفيذ وعدول إشهاد عند ممارسته لمهتي خبير عدلي ومتصرف قضائي لدى مختلف درجات المحاكم التونسية.
وهنا يحضرني ما قام به الزميل، عضو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المكلف بالشؤون الادارية والمالية والشراءات من مجهودات، وما اتصف به من حيادية واستقلالية كاملة فاقت كل التصورات، فهو الذي أرسى اجراءات التصرف المالي والاداري بالهيئة المركزية وأشرف على عمليات الشراء وتجهيز مقرات الهيئات الفرعية قبل وأثناء انطلاق عمليات التسجيل، كما حافظ على استمرارية الهيئة وممتلكاتها ومقراتها ونواتها الادارية بكامل تراب الجمهورية وخارج حدود الوطن بعد موعد 23 اكتوبر 2011. قام بهذا العمل الجبار إلى جانب اضطلاعه بعضويته الكاملة بالهيئة المركزية، وما يتطلبه ذلك من اتخاذ قرارات حاسمة واصدار مناشير ترتيبية لتنظيم العملية الانتخابية. فإذا كان شرط الاستقلالية والكفاءة من الشروط الاساسية في الاضطلاع بشرف الانتماء إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المزمع إحداثها، فإنني أجزم بلا تجن ولا استعلاء بأن الاغلبية الساحقة من أعضاء هيئة الخبراء المحاسبين، يتوفرون على هذين الشرطين بامتياز. ان المطلوب هو الانصاف والعدل تجاه هذه الشريحة من المجتمع التونسي، التي عملت بصمت خلال سنوات الدكتاتورية، فقد وقف أغلب الخبراء المحاسبين سدا منيعا لحماية الاقتصاد الوطني من الهزات، وخاصة مؤازرة الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل أكثر من 80 بالمائة من النسيج الاقتصادي للبلاد، ورفض أغلب أعضائها الشرفاء الانسياق وراء حزب التجمع المنحل، وكذلك عدم التورط في مناشدة الرئيس السابق، في حين هرولت العديد من النخب الأخرى إلى المناشدة والتنويه بانجازات بن علي المكذوبة.
أرجو تدارك هذا السهو الذي أتمنى أن لا يكون متعمدا، وذلك بتشريك شرفاء المهنة ( وهم كثير) في القرارات الكبرى التي تهم مستقبل تونس، فهم أهل لذلك. وحتى أكون منصفا (وشهد شاهد من أهلها)، فإني أحمل مجلس هيئتنا الحالي جزءا من المسؤولية بوصفه المسؤول الأول للتعريف بكفاءات المهنة وإحلالها المكانة التي تستحق في محيطها الداخلي والخارجي.