عندما كانت أقطار الشمال الإفريقي بيد الاستعمار الفرنسي كان اجتياز الحدود والاستيطان والمعاملات التجارية من الأمور اليسيرة. فالحجّاج المغاربة كانوا يمرونّ من تونس فيمكثون بها للعمل زمنا، وقد يستقرّون عند العودة إذا استطابوا المقام، ومن بعضهم انحدرت عائلات تونسية كثيرة. ومن عادة أهل تونس استقدام حرّاس لدورهم ومتاجرهم من منطقة «السوس» المغربية المشتهرين بالأمانة والصّبر على الغربة، حتى إني زرت مرّة منطقة أغادير فقادني مضيّفي إلى ضاحية قال لي «إنّ جلّ رجالها عندكم بتونس ، يرتحل الواحد منهم إليها فإذا وجد عملا لأحد أقاربه استقدمه. وعندكم منهم جالية هامّة».
الحراك السكّانيّ بين الجزائروتونس لم يتوقّف أيضا، فأهل الجزائر اعتادوا أن لا يروا أنواعا من التّجارة إلاّ بأيدي التّوانسة القادمين بمصنوعاتهم اليدويّة من زرابي وحصر وزرارع وأفاويه وفخار، أو بمهاراتهم في بعض الحرفيّة كحذق أهل غمراسن لصنع الخبز والفطائر والحلويات الشّعبية. كما وفد على تونس كثير من «القبايلية» جنّدهم البايات في عسكر زواوة، ثمّ وفد آخرون من الشّرق الجزائري فاستثمروا في الفلاحة، وأعرف فريقا كاملا من أهل سطيف صاروا من كبار الفلاّحين بماطر، وأذكر أنّ الصّديق عبد الحميد بورايو من جامعة الجزائر يتفاخر مداعبا بأنه من كبار الملاّك بتونس لأنّ أبناء عمومته يتصرّفون في أراض شاسعة بالدّهماني.
أما مناطقنا الجنوبية ذات المناخ الطبيعي والاقتصادي الخاصّ فقد اتّخذ فيها الحراك السّكّانيّ شكل موجات بشريّة زحفت بمقتضاها إلى الشّمال أفواج الطّرابلسية للعمل بمناجم الفسفاط أو الضّيعات الفلاحية الكبرى، وتكوّنت منها في جهات عديدة من البلاد أحياء ما زال بعضها يحمل اسمهم حتى بعد أن اندمج أهله في النّسيج السّكّاني ولم تعد تكشفهم إلاّ أسماء انتسابهم كالجنزوري والغدامسي.
في العصر الحديث، وبعد انفجار الثّراء البترولي في ليبيا، حصل الزّحف المعاكس ونزح الباحثون عن عمل نحو حضائر نشطت فجأة واحتاجت إلى كثافة عمّاليّة في مختلف الميادين فاستقدمتهم من تونس. في ظلّ هذا التغيّر أيضا لم يعد الوافدون من ليبيا عاطلين وطالبي شغل كما في القديم بل مستثمرون ورجال أعمال ، تتكرّر زياراتهم لكن لا يقيمون.
كلّ تلك التّحرّكات السّكّانيّة كانت تلقائيّة دفعت إليها ظروف العيش القاهرة بما يتوفّر لدى كلّ إنسان من وسائل أو تيسّره له العلاقات وطبيعة المعاملات، ولم نتطرّق هنا إلى الهجرات القسريّة التي فرضتها في عهود معيّنة حروب تكرّرت لدى جارتينا الجزائر وليبيا، أو عند احتلال فرنسالتونس، فتلك أحداث لا تترك للمرء خيارا غير الهرب وطلب السّلامة.
كلّ الدّلائل كانت تبشّر بعد استقلال الأقطار المغاربيّة أنها ستتعاون، ثمّ تتّكامل وأخيرا تتّحد، لكن حدث العكس، إذ انغلقت كلّ واحدة على نفسها، وصار اتّصال الأهالي بعضهم ببعض أصعب من ذي قبل، بل اشتدّت الخصومات بين المغرب وموريتانيا، ثمّ بين المغرب والجزائر إلى أن قامت بينهما حرب ما زالت آثارها ماثلة في الحدود المغلقة بين الجارتين. وتلاعبت النّظريّات المتباينة بعقول النّخب الحاكمة فذهبت بها كلّ مذهب إلاّ مذهب التّكافل والتّعاون، وعطّلت أعمال كلّ اللّجان الفنّيّة والاقتصادية التي اشتغلت كالنّمل لوضع أسس متينة مقبولة من طرف الشّعب لبناء الاتّحاد المغاربي المنشود.
وهكذا بعد أن مسخت أنانية الحكّّام العلاقات الطبيعية والعفوية الرّابطة بين الأقطار المغاربية، وهي علاقات لو تركت لإرادة الشعوب لأحسنت استثمارها وزادتها رسوخا يقوم اليوم دعاة انتهازيّون للمناداة بفتح الحدود (حالا وبصورة آلية) بقرار مرتجل على لسان نصف وزير .
هذا عبث!... فهل الأمر من السّهولة بحيث لا يستدعي الدّرس والاستشارة ومراجعة الاتّفاقات الممضاة وما فيها من تبعات؟ألا يتطلّب قرار كهذا وضع مراحل و رسم خطّة لتحقيق اندماج بلا فوضى ولا ارتجال؟لم لا يستشار جيراننا عوض أن نفاجئهم ونتلقّى صمتا من المغرب أو رفضا مثل الذي أهدتنا إياه الجزائر؟والشّعبالتونسي في كلّ هذا ...أين هو؟ هل طلب رأيه أو رأي مجلسه المنتخب؟أشكّ أحيانا أنه ما زال ّ في بلدي رؤوس تفكّر ، وعقول تتدبّر.