بعد أشهر طويلة من التجاذب الإيديولوجي الّذي فتح الأبواب في العديد من المرات على مشاهد صراع وعنف وقطيعة، تتّجه الساحة السياسيّة في تونس إلى تجاذب سياسي سيكون في كلّ الحالات مثمرا وناجعا. في الإيديولوجيات هناك الكثير من الغلوّ والتطرّف ونفي الآخر، وبذلك يبقى المجال دائما منفتحا على الصدام فكلّ إيديولوجيا تسعى للقضاء على الإيديولوجيا المخالفة ، إذ لا غاية لأيّة إيديولوجيا إلاّ البحث على الهيمنة والتسلّط والإجهاز على «العدوّ».
كشفت الأحداث الّتي أعقبت الثورة عن عداء إيديولوجي مقيت، ولكن وعلى الرغم ممّا حدث من خسائر وإضاعة للكثير من الوقت فقد بان واضحا أنّ الأنفاس الإيديولوجيّة لا أفق لها، فتونس بلد متجانس وموحّد تتعايش فيه كلّ المعتقدات والأديان والأفكار، وهي أيضا بلد تتمازج فيه روح الحداثة مع مرتكزات الهويّة العربيّة الإسلاميّة دون نشاز أو نفور.
النخب والفاعلون السياسيّون يتّجهون اليوم شيئا فشيئا إلى سياق تجاذب سياسي تغلبُ فيه القراءات والرؤى والتصوّرات والبدائل على الأفكار الأحاديّة والتوجّهات التسلطيّة، سياق فيه تطليق للعنف الإيديولوجي لفائدة تواصل وحوار ومشاركة سياسيّة متمدّنة ومتحضرّة.
ولم يكن من باب الغرابة أن يقف التونسيّون والتونسيّات صفّا واحدا رفضا في وجه مخطّطات الفتنة والتقسيم وحماية لمكتسبات بلادهم في الوحدة والانسجام والعيش المشترك.
تعكسُ الأحداث الأخيرة اتجاها نحو تحوّل مهمّ في أداء مختلف الفاعلين السياسيين، في السلطة والمعارضة، رغبة منهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي، وقد عملت الأحزاب السياسيّة على وضع أجندات عمل جديدة فيها تركيز على النقد وطرح البدائل وبحث التحالفات والقراءة الاستباقيّة لتطوّرات الأوضاع تأهبّا للمواعيد السياسيّة والانتخابيّة المنتظرة.
لمّا يكون هناك تغليب للمعطى السياسي، يُمكن تحديد مواطن الخلل أو الأزمة، ويُمكن الوصول لاحقا إلى توافقات ورؤى مشتركة، صحيح أنّ هناك اختلافات في السياسة ولكنّها اختلافات قابلة للتعديل والمراجعة على عكس الاختلاف الايديولوجي الذي يتأسس على الهيمنة والقطيعة والرفض الحاد للآخر.
ومن المؤكّد أنّه بقدر الابتعاد عن التجاذب الإيديولوجي بقدر ما ستؤول الحياة الوطنيّة إلى المزيد من الهدوء والتقارب بين مختلف الأطراف وبقدر ما ستنفتحُ فيه آفاق جديدة لمسار الانتقال الديمقراطي فيه الكثير من الأريحيّة والطمأنينة على مستقبل البلاد.