منذ الاستعمار الفرنسي الناهب للثروات والطامس للهوية، مرورا بالجمهورية الأولى التي دامت أكثر من خمسين عاما، والتي حكم خلالها تونس إثنان من عتاة العلمانية في العالم الإسلامي. تعرض شعبنا الأبي لحملة شعواء مستمرة، لتغريبه والقضاء على هويته. مدينة القيروان بكاملها كانت أهم المعالم المستهدفة، إذ شكلت على مدار قرون من الزمان منارة للإشعاع الثقافي الإسلامي في تونس وشمال إفريقيا. وكانت قائمة تشهد على عظمة بناة تلك الحضارة المزدهرة. طُمست هذه المدينة الطاهرة ونال الظالمون من دورها الحضاري بشكل لم يسبق له مثيل في العالم العربي والإسلامي، إذا ما قورنت بمدن مثل القاهرة والقدس ودمشق وصنعاء... كانت بالنسبة لتونس بمثابة القلب للجسد، وهمزة وصل تربط بين مدن الجمهورية شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، فأرادوا إسكات ذلك القلب إلى الأبد فجعلوها بعيدة قاصية وهي قريبة دانية. فتراها قد استثنيت عمدا من شبكة السكك الحديدية التي تغطي البلاد بكاملها حتى لا تكون نقطة عبور ومكانا يصعب على الأفراد والأموال التنقل منها وإليها. لأنهم يخافون من إشعاعها عمدوا إلى إطفاء نورها.
ولقد استهدف بورقيبة ووريثه بن علي التعليم الديني في البلاد. فالأول أغلق أقدم جامعة في العالم الإسلامي حتى اندثر مجدها واندثر معه تفقه التونسيين في شتى علوم الدين. أما الثاني فقد أفرغ مناهج الدراسة من أي مضامين تتعلق بديننا الحنيف. وقد كان ذلك بدعوى الحداثة والتطوير، ثم بدعوى تجفيف منابع الإرهاب. فالأسباب تعددت والهدف كان واحدا، وهو طمس الهوية الإسلامية للتونسيين وإفراغها من مضمونها والحيلولة دون لعب دورها الحضاري.
أدرك أعداء الدين دور المساجد في تثقيف أبناء الأمة والارتقاء بأخلاقهم عبر التاريخ الإسلامي الطويل، كما أدركوا دورها في نشر علوم الدين وحفظها من الاندثار. بل علموا أن المساجد مثلت همزة وصل بين بلادنا وبقية ربوع العالم العربي والإسلامي، حيث كان يفد إليها الآلاف من رواد العلم والعلماء بقصد التعليم والتعلم. من أجل ذلك أخذوا على عاتقهم عبء القضاء على ذلك الدور المركب والحيوي لهذه المؤسسة الدينية العظيمة. فظلوا يكبلونها شيئا فشيئا ويحيطونها بالأغلال حتى اعتقدت الأجيال المعاصرة أن المساجد فقط شيدت للصلاة بل وجعلوها متاحف يزورها السائحين.
هكذا سقطت بيوت الله أسيرة بيد الظالمين، ومرت عقود من الزمان وهي تشكو ظلم الطغاة المتجبرين إلي أن هبت ثورة شعبنا التونسي الأبي. ثورة جاءت بالحرية للمسارح ودور الثقافة لتبدع بلا حدود، وأقبلت بالحرية للإذاعة والتلفاز والصحف لتعبر دون رقيب. الكل ينشد الحرية فيلقى أبوابها مفتوحة على مصراعيها دون قيود. وبقي مكان واحد أسير في مدينتنا العتيقة. مدينة القيروان التي تخفق قلوب العالم شوقا لرؤياها بقيت مساجدها مكبلة في الأصفاد. إلى اليوم لم تفتح أبوابها لروادها ليمارسوا حرية العقيدة والاجتماع والتعلم والإبداع وحق التنوع والإختلاف.
بالأمس كان العقلاء يتحسرون لما آلت إليه بيوت الله على يد الظالمين، أما اليوم من هو صاحب المصلحة في أن تظل أبوابها ونوافذها مؤصدة، فلا تصلها رياح التغيير؟ من ذا الذي أراد لها أن تستمر هكذا غير قادرة على إستعادة دورها في بناء هوية هذه الأمة التي عانت كثيرا من التغييب والتغريب ؟
والسؤال هنا إلى متى ستظل مساجدنا أسيرة ومقيدة ؟ فقانون المساجد سيء السمعة والموقع عليه بإسم عدو الدين والهارب المخلوع زين العابدين بن علي لا يزال بيد أصحاب المصلحة يحاجون به كل من يعمل على كسر تلك القيود. كذلك فإن الأوثان الفكرية التي زرعتها الأنظمة السابقة وأكدها في أذهان الناس شيوخ السلطة على مر السنين هي أيضا بمثابة قيود متينة وجنازير تضرب على مداخل تلك الأماكن ومخارجها لألاّ يعود إليها بريقها وتستعيد دورها الحضاري من جديد.
شيوخ وأئمة السلطة وموظفو الشؤون الدينية لم يتيقنوا بعد أن نظام بن علي قد ذهب دون رجعة، لذلك تراهم يسيرون على ذات النسق لعله ذهب في رحلة قصيرة وعن قريب سوف يعود إليهم محملا بالهدايا والعطايا، شاكرا لهم قدرتهم الرهيبة في التصدي لكل محاولات التغيير.
شيوخ السلطة يتكلمون عن المساجد على أنها دور عبادة ومكان لحفظ القرآن الكريم، قول حسن ويبدو لك صحيحا ولكنه يحتوي على مغالطة شرعية وتاريخية ويمثل اعتداء على دور المؤسسة الإسلامية الأعظم. والسؤال الذي يوجه إلى هؤلاء، هل مسجد مثل جامع عقبة بن نافع بني على هذه المساحة الشاسعة وارتبط بالعديد من المرافق والملحقات كان فقط بقصد الصلاة؟ ألم يكن ذلك المسجد منارة للعلم والثقافة لعدة قرون ؟ ألم يكن أول مكان شيده المسلمون ومنه انطلقوا لبناء حضارتهم التي أنارت الدنيا شرقا وغربا ؟ ألم يتم توسيعه عدة مرات بالقدر الذي كان يتسع فيه دوره وتزداد فيه مهامه ؟
الموظفون العاملون في معتمدية الشؤون الدينية بالقيروان لا يزالوا متسكين بقانون المساجد سيء السمعة كأنه مقدس أو تنزل على بن علي بوحي من الله. كأنهم لم يقرأوا قوله تعالى :
{ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (البقرة 114). فالهارب المخلوع وضع ذلك القانون بدقة ليبعث الخراب في المساجد ويحولها إلى أديرة للرهبنة وأعشاش للطيور. بل الكنائس في أوروبا وأمريكا تلعب أدوارا أكبر بكثير مما تقوم به مساجدنا. فترى الكنيسة تفتح أبوابها للصلاة وتلقين علوم اللاهوت، ومنها يتخرج دعاة التبشير، وفيها يغاث المحتاجون وعابرو السبيل، وبها تقام مراسم الزواج وتأبين المتوفين.
وفيها يتشكل قسم لا بأس به من الوعي الجماعي لشعوب تلك البلاد. والكنائس كأبنية تحتوي أماكن للصلاة وملحقات عديدة لأغراض ثقافية وإجتماعية ودينية. وكذلك الحال بالنسبة الى المساجد التي أقيمت في هذه البلاد: الغرب، حيث تجدها عبارة عن مؤسسات متكاملة. أما عن بلاد العالم الإسلامي، فترى مساجدها معمورة تعج بالحركة والنشاط على مدار اليوم، حصص لتعليم الفقه واللغة العربية ومكتبات للمطالعة ولقاءات تجمع الناس بالعلماء، وقد وصل الأمر بتلك المساجد حد تقديم خدمات إجتماعية متنوعة بمبالغ رمزية لمساعدة غير القادرين ومن تلك الخدمات مثلا، الاستشفاء ورياض الأطفال وتعليم الكبار وتقديم الطعام والثياب.
ولقد شهدت المساجد في العديد من المدن التونسية تعاظما لدورها بعد سقوط الطاغوت ونحن هنا في القيروان دونا عن كل البلاد شرقا وغربا مساجدنا مقيدة بأغلال حتى الثورة المباركة لم تقدر على كسرها. فحراسها لا يهمهم من الأمر سوى أنفسهم، ومواصلة خطتهم في بقاء البلاد ترزح تحت رتابة الفكر الديني التقليدي غير المتجدد، وتظل المساجد فقط أماكن للصلاة. فذلك يوفر لبعض هؤلاء الحراس المتواطئين من شيوخ وموظفي الشؤون الدينية فرصة مواصلة إبتزاز تلك المساجد الكبيرة. فلهذه الأماكن المقدسة محبون من رجال أعمال وأصحاب رؤوس أموال يغدقون بسخاء على هؤلاء الحراس، وذلك إعتقادا منهم أنهم رجال مخلصون وهبوا أنفسهم لخدمة دين الله.
والسؤال الذي يوجه الى هؤلاء الشيوخ، هل تخافون من الإنفتاح على الغير، ربما لأن ذلك سيضعكم في الميزان أمام شعب القيروان عندما يستمع الى العلماء الوافدين. أتخافون أن يكشف مستواكم العلمي الهش. هل يذكركم وجود هؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه بضعفكم والوهن الذي في قلوبكم، والذي شجع نظام الطاغية أن يستبد وينتهك حرمة الدين والعباد. هل تخافون من أن يصفكم البعض بأنكم تواطأتم مع نظام كارها لدين الله خدمة لمصالحكم الضيقة.
اعلموا أنكم مكشوفون، فعهد السذاجة قد مضى. وإن كنتم بالأمس القريب تتمسحون على أعتاب النظام السابق، فإن ذلك قطعا في أيام الحرية لن يكون. تريدون أن تستخدموا ورقة السلفيين «كفزاعة» ترهبون بها أناسا بيدهم القرار، حتى يقتنعوا أنكم في مساجد القيروان تمثلون البديل الوسطي، وتشكلون جبهة الإعتدال. وأنتم في الواقع لا تمثلون بدائل وإنما تشيعون الأحقاد بين الناس وتضربون هذا بذاك لتخرجوا أنتم ومصالحكم من بينهم سالمين. فحكام اليوم ذاقوا على أيديكم مرارة صمتكم ووقوفكم إلى جانب الطاغية حتى الرمق الأخير، فما أظنهم اليوم تنطلي عليهم حيلكم ويسلمون لكم رقبة مساجد البلاد من جديد.
لا تفرحوا كثيرا بما قاله الشيخان الجليلان والضيفان الكبيران عندما حلا بجامع عقبة وقدمتم لهما أنفسكم على أنكم حماة الوسطية والاعتدال، لأننا لن نترككم أبدا تعيدون الكرة وتضحكون على شعب القيروان بعدما ارتديتم ثوبكم الجديد. فأنتم أنتم، لن تتغيروا في يوم وليلة. وشعب القيروان هو ماض في ثورته حتى تمام التطهير وتذكروا جيدا أن هذا يوم لناظره قريب.