وافانا السيد حسين غالي، مدير مركز الدراسات والبحوث العربية، بجنيف، سويسرا، بدراسة أعدها حول مسقط رأسه معتمدية جبنيانة.. الدراسة تناولت النقائص والسلبيات التي ربما لا تختلف عن سلبيات بقية مناطق البلاد وهذا أهم ما جاء فيها. يقول الباحث «منذ الستينات وإلى حد هذا اليوم، تعاني جبنيانة مدينة الخمسين ألف ساكن بعماداتها، أوضاعا مزرية في كل الميادين: بطالة شملت جميع الشرائح وخصوصا الشباب، أوساخ متراكمة في كل الأحياء ، طرقات طالتها الحفر، مسالك غير معبدة، روائح كريهة وسط السوق البلدية وفي كل شارع، ملعب غير مهيأ منذ الخمسينات، شباب مهمش وعنفوي لعدم وجود أية وسيلة للترفيه، مجلس بلدي مفقود وتناحر إيديولوجي على حساب المصلحة العليا للبلدة. لأن السياسيين خيّروا التصعيد والانشقاق عوض التكتل من أجل النهوض ببلدتهم التي تفتقد أدنى مقومات البنية التحتية وتفتقر إلى المشاريع والمصانع والشركات .
الأوساخ والروائح الكريهة وانعدام التطهير
كل أحياء وشوارع جبنيانة تغص بالأوساخ من جميع أنواعها ووسائل البلدية تكاد تكون منعدمة لقلة المعدات ولتشغيل 7 أشخاص فقط لتنظيف كامل المدينة فالبلاستيك والأوراق والحجارة وبقايا المأكولات والورشات موجودة في كل مكان. أما السوق البلدي فالروائح الكريهة من السمك النتن ودم الخرفان التي ذبحت أمام دكاكين الجزارة وتبول بعض المارة تحت الجدران، كل هذه آفات جعلت من قلب جبنيانة مكانا لا يحتمل العيش فيه. ففي فصل الصيف يتكاثر الناموس وجميع الحشرات المؤذية لأن التصدي لها بالأدوية مفقود تماما. ولكي تكون حالة جبنيانة في منتهى التعاسة، كثرت الطرقات غير المهيأة في شتى الأحياء، وعمت الظلمة في عدة طرقات والأنهج من جراء النقص الفادح في فوانيس الإنارة وتعطل الأخرى منها دون إصلاحها . وفي الليل ترتع الكلاب السائبة في الشوارع وتقلق راحة المتساكنين بعوائها زيادة على هيجان مضخمات الصوت في عديد المساجد التي تزعج راحة العباد في الثالثة عند النداء لصلاة الفجر.
تفشي البطالة
يختصر شارع الحبيب بورقيبة، وهوالطريق الرئيسة للبلدة، جل أنشطة جبنيانة إذ تتراكم به بعض العشرات من الدكاكين والمحلات التجارية إضافة إلى سبع مقاهي بالتمام والكمال تستقبل المئات من الشباب العاطلين الذي يقتلون الوقت في لعب الورق وحسب الإحصائيات الجهوية فإن 60% من القوة العاملة بجبنيانة تعيش حالة من البطالة الدائمة رغم ما يحيط بالبلدة من إنتاج هائل لزيت الزيتون والخضروات من طماطم وفلفل وجلبانة مما كان يؤهل مدينة جبنيانة لأن تكون قطبا صناعيا لتحويل هذه الخضروات إلى مصبرات وبذلك خلق فرص كبيرة للعمل. وتتراوح أعمار العاطلين عن العمل بين 18 و40 سنة ومنهم من هو عاطل عن العمل منذ سنوات عديدة.، والغريب في الأمر أن معظم هؤلاء يتناولون بالنقاش بعض القضايا السياسية كالقضية الفلسطينية والوضع في سوريا وأهداف الثورة وكيفية تحقيقها، مهملين الحديث عن الأوضاع البائسة والتعيسة التي يعيشونها يوميا في بلدتهم . لقد تعوّدوا على العيش بين الأوساخ المنتشرة والروائح الكريهة والدماء المتعفنة ومعاناة الفقر والخصاصة بدون أي مؤسسة ترفيهية وأي حق قي العيش الكريم.
التهميش والعنف واللامبالاة
لا يمكن أن نتحدث عن جبنيانة دون الوقوف على ظاهرة التهميش والعنف وسوء سلوك الشباب نتيجة تفاقم البطالة وعدم وجود أماكن ووسائل الترفيه وإطار لائق يلبي طموحات المراهقين والأطفال. فأمام هذا الفراغ وانسداد الأفاق وشدة حرمانهم وغياب الوسائل المادية للعيش الطبيعي، لجأ بعض هؤلاء الشبان إلى استعمال العنف وتعاطي الخمر والمخدرات حيث يجدون راحة بالهم متناسين ما ينجر عن ذلك من مآس وآفات لا يصعب تصورها . وتفشت جرائم السرقة وأصبح البعض يختلس ابتداء من البطال مرورا بالعامل البسيط والبائع ووصولا إلى الموظف والمسؤول وبالتالي فالبطالة ساهمت بشكل كبير في دفع الشباب إلى «الحرقان» وركوب البحر في ظروف قاسية وانتحارية للوصول إلى جزيرة «لمبادوزا» على شواطئ صقلية طمعا في رغد العيش بين أحضان أوروبا.
مثقفون..لكن؟
تزخر جبنيانة وضواحيها بأعداد غفيرة من خريجي الجامعات من جل الاختصاصات فهناك مئات الأطباء والمهندسين والمدرسين في الثانوي والابتدائي والموظفين في الإدارات، فأغلب هؤلاء لا ينتمون إلى أحزاب سياسية ولا مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني فلا يهتمون بمشاكل البلدة التي يسكنونها أو يقضون عطلهم فيها، فالبطالة والأوساخ وتعفن المناخ ورداءة العيش للمواطنين لا تهمهم ولا يعيرونها اهتماما . فتراهم ينتقدون فقط ويسخرون جل وقتهم للعب الورق بالمقاهي والتنزه أحيانا على شاطئ اللوزة أوتحت الزيتون أوفي بيوتهم. أما العدد القليل من الشبان والمثقفين الذين ينشطون في المجال السياسي وبانخراطهم في أحزاب المعارضة و«الترويكا» الحاكمة فهم ضحية التجاذبات السياسية والإيديولوجية وقد عمد البعض منهم إلى استعمال العنف وعدم التركيز على النهوض بجبنيانة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية بتقديم ملفات ودراسات واقتراحات تشارك في انجازها كل الحساسيات السياسية ومكونات المجتمع المدني بغض النظر عن انتماءاتهم الإيديولوجية .
الماء الصالح للشراب
في جبنيانة 74 عائلة لا يتمتعون بالماء الصالح للشراب رغم مطالبهم الملحة في عهد المخلوع وبعد الثورة، الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لم تحرك ساكنا والمسؤولون في المعتمدية والبلدية منغمسون في مسائل سياسية بحتة وكأن المئات من هؤلاء المتساكنين ليسوا عبادا . لذلك يعتمد المحرومون من الماء على المواجل غير الصحية وعلى عطف الجيران وقد علمنا أخيرا ومن حسن حظ هؤلاء أنه تقرر تمكينهم من الماء الصالح للشراب عن طريق مشروع التنمية المندمجة الذي لم يبدأ بعد بالتنفيذ .
لو رأيت المسلخ البلدي لانقطعت عن أكل اللحم!
ويعتبر المسلخ البلدي بجبنيانة كارثة بأتم معنى الكلمة لما يحتوي عليه من أوساخ متراكمة منذ عدة سنوات لخلوه من أبسط شروط الصحة والعمل، أما الروائح الكريهة تنبعث منه ليلا نهارا، وسط حي سكني يشتكي أهاليه من الأوساخ المتراكمة حوله ومن الدماء المتعفنة التي تبقى أمامه تحت الشمس فتولد الحشرات وجحافل الناموس والذباب. ويشكل هذا المسلخ خطرا جسيما على حياة وصحة المتساكنين حوله وعلى مشتري اللحوم التي تنقل على العربات والدراجات النارية والشاحنات العارية تحت غبار الطرقات وتلوث الهواء بدون مراقبة صحية وبيطرية عند الذبح. ونظرا للوضعية المزرية التي عليها المسلخ البلدي فإن الحالة تلك تدعو المسؤولين إلى التدخل السريع والناجع لإيجاد حل لهذه المعضلة حفاظا على صحة المواطن وحماية لبيئته وتخفيفا على المواطنين من معاناتهم اليومية من انتشار الأوساخ والفضلات في كل الأنحاء. هكذا تعيش جبنيانة ظروفا صعبة وإهمالا كبيرا ومعاناة جمة منذ الستينات إلى يومنا هذا. فالنظام الدستوري البائد وعد سكانها بالجنة على الأرض دون أن يوفر لهم تحقيق ذاتهم وبلوغ أهدافهم . وثورة 14 جانفي 2011 تناستهم هي الأخرى ولم تقدم لهم إلا الضئيل غير المجدي فثار الشباب بدون جدوى . إن الأوضاع المتدهورة التي عليها بلدة جبنيانة التي كانت ولاية في عهد الاستعمار تدعو إلى توحيد القوى والعمل في إطار جمع كل التيارات السياسية والجمعياتية بالتنسيق مع السلطات المحلية والشروع حالا في إقامة البنية التحتية الضرورية لبناء المصانع والمؤسسات الصغرى والمتوسطة لتوفير مواطن شغل للعاطلين عن العمل الذين بلغوا الآن درجة اليأس والإحباط مع الإسراع في إزالة الأوساخ المتراكمة في البلدة كي يتمتع السكان بأبسط مرافق العيش الكريم وهذا من حقهم.