في 8 جويلية 1972 اغتيل غسان كنفاني. زرع عملاء الموساد عبوّة في سيّارته. كان يعيش مع أسرته في شُقّة على ملْك أُخته في ضاحية بيروت الغربيّة. نزل من الشقّة واستقلّ السيّارة هو ولميس ابنة أخته. وما إن أدار المحرّك حتى انفجرت السّيارة وتطايرت أشلاء الراكِبَيْن في كلّ اتّجاه. كانت لميس في التاسعة عشرة وكان غسّان في السادسة والثلاثين. عدتُ بين يدي هذا النصّ إلى روايته «رجال تحت الشمس» فأبهرني توهُّجُها الدائم وقدرتها الاستعاريّة على الإحاطة بالكثير من ملامح واقعنا الراهن في هذه المرحلة السياسيّة الحرجة التي نكاد لا نطمئنّ فيها إلى قيادة جديرة بالثقة.
في «رجال تحت الشمس» يصوّر غسّان كنفاني مأساة رجال يُشبهوننا. أبو قيس وأسعد ومروان يريدون الهجرة إلى أحلامهم وخلف أحلامهم. يعدهم أبو الخيزران بتهريبهم داخل شاحنة ذات صهريج أو خزّان لنقل الماء. يضع الرجال الثلاثة حياتهم بين يدي «قائدهم» لكنّه بين سوء الحظّ وسوء التدبير لا يفتح لهم باب الخزّان إلاّ وهم جثث هامدة..
استعارةٌ بليغة ظنّ كنفاني أنّه صوّر بها واقعه الفلسطينيّ فإذا هي نبوءة تقول لحظتنا العربيّة حتى اليوم، وتقول لحظتنَا التونسيّة تحديدًا، بكلّ ما يكتنفها من أسباب التفاؤل والتشاؤم، وكأنّنا نكاد لا نغادر خزّانًا إلاّ إلى آخر، حتى بعد هذا الربيع المُحاصَر بخريفِ من وثبوا عليه!
رافق غسّان كنفاني جيل الكبار من مناضلي القضيّة الفلسطينيّة مثل جورج حبش وتولّى مهمّة الناطق الرسميّ باسم الجبهة الشعبيّة دون أن يمنعه ذلك من ممارسة نشاط ثقافيّ يكاد يعجز عنه المتفرّغون. كتب الشعر والقصة والرواية والمسرح والمقالة السياسيّة والفكريّة والسيناريو ومارس الرسم وأشرف على العديد من المنابر الصحفيّة. أمّا رؤيته الفنيّة فقد نراها في قوله: «ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقّدة وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة. إنّ الانحياز الفنيّ الحقيقيّ هو كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة..»
وأمّا سمات الإنسان فهي واضحة في كلّ ما ترك. بل لعلّ الموت أسبغ عليه هالة أسطوريّة تكاد تصرف الأنظار عن أدبه.. هو الذي كان يُقاوم مثلما يتنفّس ويناضل من أجل «الحرية التي لا مقابل لها..الحرية التي هي نفسُها المُقابِل.. »
عاش ثائرًا وصوّر في أعماله المهمّشين والمقهورين الذين تخفق قلوبهم للحريّة. وكم أجده حيًّا بيننا اليوم حين أستحضر تلك العبارة النبوئيّة التي تُنسب إليه: «أخشى من وقت تصبح فيه الخيانةُ وجهةَ نظر.. »
في رجال تحت الشمس يصوّر غسّان كنفاني رجالا يشبهوننا.. يضعون ثقتهم في من يتوهّمون أنّه مُوصِلُهم إلى برّ الأمان.. ويقتنعون بالاختفاء داخل خزّان ضيّق.. ويتحمّلون ما لا طاقة لهم به على أمل أن تمرّ المحنة.. ولا يقرعون جدران الخزّان فينتهي بهم الأمر إلى الموت..
الصلة واضحة بين الأمس واليوم.. وليتنا نقرأ الرواية جيّدًا.. ثمّ ليتنا نقرأ واقعنا جيّدًا كي لا تتحوّل هذه البلاد أو هذه الثورة إلى خزّان أو تابوت بقيادة هؤلاء الذين لا يبدو عليهم حتى الآن أنّهم مختلفون عن أبي الخيزران!
«الغاية تبرّر الوسيلة» ذاك هو الشعار الغالب على أبطال الرواية.. وهو الشعار الغالب على «أبطال» مسرحنا السياسيّ الراهن.. مع فارق أنّ اختراق الحدود في اتّجاه الأحلام أصبح اليوم اختراقًا للحاضر في اتّجاه الماضي!
في الرواية يقول أبو الخيزران لتبرير جشعه وانتهازيّته «القرشُ يأتي أوّلاً ثمّ الأخلاق».. وهو الشعار نفسُهُ عينُه ذاتُه الغالب على نُخبتنا السياسيّة الحاكمة اليوم لولا أنّها عوّضت القرش بالمناصب!
في الرواية يتحمّل الفلسطينيّون جحيم الخزّان ويعتبرونه أخفّ وطأة من جحيم الفقر والقهر داخل وطنهم المحتلّ.. وهو الخطأ نفسُه الذي يتربّص بالتونسيّين اليوم إذا هم خُدِعوا باستبداد جديد بدعوى أنّه مختلف عن الاستبداد السابق!
ليتنا ندقّ على جدران الخزّان.. بل ليتنا نرفض الاختفاء فيه أصلاً كي لا ينتهي بنا الأمر إلى خسارة كلّ شيء.. فيصحّ فينا حدس توفيق صالح حين حوّل الرواية إلى فيلم بعنوان «المخدوعون»!!