سوف لن نقف في هذا النص على طبيعة اللاوطنية للاختيارات الاقتصادية والسياسية لما يسمى بالحكومة الشرعية للترويكا التي تتزعمها حركة النهضة . والسبب في ذلك حسب اعتقادي يكمن ببساطة في الواقع السياسي والاقتصادي الذي لا زال يكرس نفس اختيارات النظام السابق . وحتى لا نتجنى على سياسة حكومة السيد الجبالي نقول ان مجرد انعقاد اجتماع ما يسمى«أصدقاء سوريا » تحت اشراف الادارة الأمريكية وبحضور هيلاري كلينتون مهندسة الربيع العربي المزعوم لهو أكبر دليل على ذلك زيادة على انتهاج نفس البرامج الاقتصادية في الاستدانة الخارجية من صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الأجنبية الاحتكارية.
فالذي يعنينا بالبحث في هذا النص هو مدى تكريس حكومة السيد الجبالي للخيار الديمقراطي ومحاسبة المفسدين والمرتشين في المرحلة الانتقالية بعد تسلمها الحكم منذ أكثر من ستة أشهر .
أما فيما يخص الممارسة الديمقراطية فإننا نلاحظ التعثر الواضح والتخبط العشوائي خاصة في التهجم على المعارضة في كل مرة توجه فيه هذه الأخيرة نقدا لأداء الحكومة. وبلغ هذا التهجم أقصاه اذ وصفت المعارضة بالمتآمرة والمعارضين بالمتآمرين ما يوحي بأننا ما زلنا نعيش على تراث الاستبداد الذي اكتوينا بناره طيلة ستة عقود . وفي مقابل ذلك السكوت المتعمد للحكومة على الجماعات الوهابية السلفية والتكفيرية بما فيها المتشددة والمتطرفة .
وهي الظاهرة الملفتة للانتباه لكل المحللين السياسيين والمتابعين للشأن السياسي في القطر وفي الوطن العربي من تونس الى اليمن الى ليبيا الى مصر الى سوريا . والأخطر من ذلك أن تنظيم القاعدة وخلاياه النائمة أصبحت نشيطة وتتلقى الدعم من المخابرات العربية والأجنبية وخاصة في ليبيا حيث يشرف على تدريبها حكيم بلحاج أحد الوجوه البارزة في تنظيم القاعدة بليبيا .
ولعل عملية المطاردة التي قام بها الجيش الوطني التونسي مدعوما بقوات الأمن الداخلي لفلول هذه الجماعات المتطرفة سواء في الروحية من ولاية سليانة في ماي 2011 التي سقط فيها شهيدين من الجيش وقتل ارهابيين أو في بئرعلي بن خليفة من ولاية صفاقس في فيفري 2012 التي أدت الى قتل مسلحين اثنين والقاء القبض على الثالث أو في برج الخضراء في الجنوب التونسي وكذلك الخطابات المعلنة من أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة الموجهة للجماعات السلفية الوهابية في جوان 2012 إلا دليلا على محاولة هذه الجماعات المتطرفة من تكثيف لنشاطاتها بالإكراه والعنف والإرهاب لضرب الأمن الداخلي والاستقرار الاجتماعي وسيلة لتطبيق الشريعة الاسلامية وفرض الدولة الدينية ذات المرجعية الوهابية . فخلال الستة أشهر الأخيرة كانت حكومة السيد الجبالي أميل في التعامل مع هذه الجماعات التكفيرية غاضة الطرف كليا على ما أتوه من أعمال عنف وتخريب للممتلكات العامة والخاصة و ترهيب للمتساكنين في عدة أحياء شعبية كما حصل في سيدي بوزيد وجندوبة وبنزرت وبعض أحياء بالعاصمة ولعل آخرها ما حصل بمناسبة معرض الصور في قصر العبدلية بالمرسى في 15 جوان 2012 مما هدد ولا يزال المسار الانتقالي الديمقراطي . ولعل التسامح والتساهل مع هذه الجماعات المتشددة في قضية اسقاط العلم رمزالوطن المفدى حيث كان الحكم يدعو للسخرية هو ما شجع تلك الجماعات الدينية المتطرفة على ممارسة دعوتها باستعمال القوة والعنف حتى في المساجد التي استبيحت من طرف هؤلاء فأخضعوها للصراع والعنف السياسي كل حسب رؤيته وعقيدته. ما اضطر المجتمع الأهلي في تونس بما له من رصيد جمعياتي في المجال الحقوقي والنقابي من اطلاق صيحة فزع على الخطر المحدق بالحريات العامة والحريات الديمقراطية والدولة المدنية كمكسب وطني تاريخي .
وفي هذا الاطار لا بد من التذكير بما حصل من ترويع للمتظاهرين يوم 9 أفريل 2012 بدعوى منع المظاهرات والاحتجاجات السلمية في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة .كل ذلك حدث و يحدث أمام مرأى ومسمع من حكومة السيد الجبالي المؤتمنة على المرحلة الانتقالية . والسبب بكل بساطة يكمن في الاحتياط الاستراتيجي التي تمثله هذه الجماعات السلفية في المعركة الانتخابية المقبلة لفائدة حركة النهضة .
وهكذا أطلق العنان للجماعات السلفية التكفيرية الوهابية وهي ترتع في الأحياء الشعبية وفي الأماكن العامة ضاربة عرض الحائط بالسلم الأهلي عاملة على تقسيم المجتمع الى كيانات دينية ومذهبية دخيلة على مجتمعنا .
ألا يشكل هذا وجها من وجوه الاستبداد الديني والسياسي الممنهج لحكومة السيد الجبالي بسكوتها على هكذا خروقات وانتهاكات لحقوق الجماعات والأفراد والمؤسسات الخاصة والعامة من طرف هذه الجماعات السلفية الوهابية الغريبة والدخيلة على المواطن بدعوى احترام حقها في النشاط التوعوي العقدي الديني ؟.
وأما فيما يخص الشأن السياسي العام فمنذ أن تولت النهضة الحكم برئاسة السيد الجبالي كانت أغلب القرارات يطغى عليها طابع الانفراد بالرأي المتسم بالنزعة الاستبدادية. وفي هذا الاطار يندرج قرار تسليم السيد محمود البغدادي الوزير الأول للنظام الليبي السابق حيث كان قرارا انفراديا من جانب رئيس الحكومة الشيء الذي عبرعنه رئيس الجمهورية السيد محمد منصف المرزوقي.
أما في الجانب الثاني أعني ملف الفساد المالي والإداري فان دار لقمان مازالت على حالها فحكومة السيد الجبالي غلب عليها طابع التردد وعدم الحسم والوضوح ما عدى ما خلفته حكومة السبسي من بعض المحاكمات للقلة القليلة ممن تورطوا مع النظام البائد والتي تميزت ببعض الأحكام المتسامحة جدا بدعوى تطبيق القانون أو استقلالية القضاء في حين كان المناضلون الشرفاء في السابق عرضة لأحكام قاسية مهما كانت التهمة بسيطة . فكل الوزارات تقريبا حافظت ولا تزال على العديد من رموز الفساد والمرتشين والمناشدين ممن كانوا سببا في عزل وطرد وعقاب مئات الاطارات والكفاءات على خلفياتهم السياسية أو النقابية .
فهل بعصى موسى أو بقدرة قادر أصبح دعاة المناشدة والضالعين في الفساد من التجمعيين الكبارالذين كانوا محظوظين على رأس بعض المصالح الادارية سواء في الفلاحة أو في التربية أو في الداخلية أو في الصحة أو في الشؤون الاجتماعية أو في الشباب والطفولة من ذوي الكرامات الذي لا يشق لهم غبار في التوبة النصوحة والالتزام الأخلاقي ؟
فهل أصبح رؤساء المنظمات والجمعيات الوطنية التي كانت تسبح بحمد السلطان وبحزب السلطان وبعائلة السلطان وبولد السلطان وبصهر السلطان كلهم بريئون من سرقة المال العام واستغلال النفوذ والمحسوبية والرشوة؟
لكن للأسف الشديد وبكل مرارة اضافة الى عدم طرح ملف الفساد والفاسدين بشكل جدي ومسؤول فما زاد الطين بلة هو استشراء الفساد والمحسوبية والرشوة سواء في حكومة السبسي أو الجبالي وعمت حالة الفساد الأخلاقي والإجرام على الطريق العام والاستهتار بأبسط القيم الأخلاقية والسلوكية والتسيب في العديد من جوانب الحيات الاجتماعية وفي الحياة العامة .
فكثيرا ما تسمع عن جرائم السرقة والاغتصاب في واضحة النهاراذ تعددت عمليات السهب والنهب باستعمال ما بات يعرف «بالبراكجات » نظرا لهشاشة الأمن المدني سواء في الطرقات العامة و خاصة بين المدن أو في الأسواق أو في الأحياء الشعبية وغياب الدوريات الأمنية المتواصلة والمستمرة . وبعد الذي سبق ذكره في هذا النص المتواضع فهل يمكن أن نطرح السؤال التالي على القارئ: هل ان الاستبداد والفساد الذي خرج من الباب بدأ فعلا يعود من النافذة؟ وفي المحصلة يسأل آخر : ما الذي تغير بعد 14 جانفي2011 ؟