حقّ لمفتي الجمهوريّة – وهو يجرّد من صلاحيّاته الوحيدة في الإعلان عمّا انتهت إليه لجان رصد الأهلّة والعيديْن – حُقَّ له أن يستاءَ وقد استبقته بأكثر من ساعتيْن «وكالة تونس إفريقيا للأنباء» ونشرة الثامنة في الإعلان عن حلول شهر رمضان. وللأمانة، فلم يكن عالم الدين الشيخ «عثمان بطّيخ» المتسلّل الوحيد في رؤية رمضان هذا العام 1433 ه، بل صحبه عالم الدنيا محمد الأوسط العيّاري الذي كان قد صرّح للشروق (الأربعاء 18 جويلية 2012) أنّ هلال رمضان تمتنع رؤيته في كافة أرجاء العالم الإسلاميّ مساء الخميس 19 – 7 – 2012، وأنّه لن يُرى إلاّ في «الشيلي» و«البرازيل» و«الأرجنتين»..
بل إنّ خبراء فلكيّين ضمن المشروع الإسلاميّ لرصد الأهلّة قد أجمعوا على استحالة رؤية الهلال في يوم التحرّي (29 من شهر شعبان) في جميع المناطق العربية والإسلاميّة حتى باستخدام التلسكوب الفلكي. واعتبروا أن إعلان أيّة دولة عن رؤية الهلال سيكون إعلانا للعالم بأنّنا نمتلك في المنطقة أشخاصا يرون ما لا نرى، أشخاصا ذوي أبصار خارقة أحدّ من التلسكوبات والمناظير!
على أنّ زرقاء اليمامة من على مرتفعات «الطائف» غرب السعوديّة قد بزّت كلّ منظار وحساب، ورأت الهلال بأمّ عينها، فبصرها اليوم حديد. وهكذا ما إن أعلنت السعوديّة أنّ يوم الجمعة هو غرّة شهر رمضان، بعد أن «ثبت» لديها الهلال بشهادة عدد من الشهود العدول حتّى تداعت لها سائر الأمم بإعلان الشهر الكريم.. وعادت طلائع الفتح المبين في استطلاع هلال رمضان والعيدين فرحين مسرورين، باستثناء قلّة أرجؤوه إلى السبت كالمغرب الأقصى وعمان وسوريّة (بخلاف ثوّارها الذين جمّعوا). ولولا هادم اللّذّات ومفرّق الجماعات لكانت جماهيريّة العقيد - رحمه اللّه - قد أعلنت الأحدَ دخول شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن !
كان عزم محمد الأوسط العيّاري بمنظومة «الشاهد» أنْ يصل إلى توحيد المسلمين في شهر رمضان والعيديْن، ولكنْ يبدو أنّ الاعتراضات التقليديّة ما تزال قائمة، فرصد الأهلّة من صميم عمل السلطان وممّا يدخل في خطط السلطة التي تتمسّك بها من أجل إثبات سيادتها. ولن تسمح الدولة، أيّة دولة، بأن تنتزَع منها سلطة إعلان بداية الشهر وانتهائه.
ثمّ إنّ منظومة «الشاهد»، في ظاهرها، تلتزم شرط الرؤية باعتبارها العلّة الشرعيّة الموجبة للصوم والإفطار، ولكنّها رؤية تتوسّل بالمناظير –لا العين المجرّدة - وتستأنس بشيء من الحساب، وهو ما لا يطمئنّ إليه الحديث الذي يذكره البخاري في صحيحه من كتاب الصوم: عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: جعل الله الأهلّة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يوما..إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا يعني مرّة تسعة وعشرين ومرّة ثلاثين..» أمّا تراثنا فيسعفنا بهذه النوادر في رؤية الهلال: -يُرْوَى أنّ جماعة فيهم أنس بن مالك الصحابيّ حضروا لرؤية هلال رمضان. وكان أنَسٌ قد قارب المائة، فقال أنس: قد رأيته. هو ذاك. وجعل يشير إليه فلا يرونه ! وكان إياس القاضي حاضرا – وهو من الذكاء والفراسة – فنظر إلى أنس وإذا شعرةٌ بيضاء من حاجبه قد تدلّت فوق عينه ! فمسحها وسوّاها بحاجبه ثم قال: انظر -أبا حمزة- فجعل ينظر ويقول: لا أراه.
-وصعد الناس ليلة لرؤيته فلم يروه، فلمّا همّوا بالانصراف رآه صبيّ وأرشدهم إليه، فقال له أحدهم: بشّرْ أمّك بالجوع المضني. -واجتمع الناس ليلة لرؤيته فكانوا يحدّقون في الأفق ولا يرون شيئا، فصاح رجل من بينهم: لقد رأيته ! لقد رأيته ! فتعجّب الناس من قوّة إبصاره وهتفوا: كيف أمكنك أن تراه دوننا؟ فطرب الرجل لهذا الثناء وصاح: وهذا هلال آخر بجواره !
-وخرج الناس بالبصرة يوما لرؤيته فرآه واحدٌ منهم ولم يزل يومئ إليه حتّى رآه الناس معه فلمّا كان هلال الفطر جاء الجمّازُ صاحبُ النوادر إلى ذلك الرجل وقال له: قمْ أخرجنا ممّا أدخلتنا فيه !