قال صاحبي: وضحت في حوارنا السابق كيف أن السلطة الاستبدادية توظف التاريخ لتلميع صورة الصنم، وتختلق قصصا في حياته لم تحدث البتة، وتحول الأقزام الى عمالقة، والجبناء الى أبطال، والأغبياء الى حكماء. أشرت في ذات الآن كيف أن أعداء الاستبداد قد وظفوا التاريخ أيضا تنديدا بالحكم السلطوي، وكنت صريحا فذكرت أمثلة من استعمالك نفس الأسلوب في سبيل غاية نبيلة، وهي مقاومة الاستبداد.
قلت: ليس جديدا أن يوظف المواطن التونسي التاريخ ليكشف عن الوجه البشع للحكم المطلق، فقد اختفت النخبة الاصلاحية التونسية وراء ابن خلدون لتندد بويلات الحكم المطلق فنفضت الغبار عن أبرز فصل في نظري – من فصول المقدمة، وأعني فصل «الظلم مؤذن بخراب العمران». قال صاحبي: لماذا تعتبره أبرز فصول المقدمة ؟
قلت: ذلك أنه ربط فيه بين الظلم السياسي والخراب الاقتصادي، وهما يؤديان في نهاية المطاف الى سقوط الدولة، وتصدع المجتمع: «أعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه من أن غايتها ومصيرها، انتهابها من أيديهم، واذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك... والعمران ووفوره، ونفاق أسواقه، انما هو بالأعمال، وسعي الناس في المصالح والمكاسب، ذاهبين وجائين.
فاذا قعد الناس عن المعاش، وانقبضت أيديهم عم المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال، وتفرق الناس في الآفاق من غير تلك الايالة في طلب الرزق، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان».
هذا النص الذي كتب قبل حوالي ستة قرون يعود الى الأذهان ونحن نشاهد ما تعانيه كثير من الأقطار العربية والاسلامية نتيجة الاستبداد. ما الهدف من نفض الغبار عن هذا الفصل، وتحليله أيام الصادق باي ؟
الهدف واضح هو الاحتماء بالنص التاريخي لتوظيفه من أجل قضايا الراهن، ويذهب ابن أبي الضياف بعيدا في «الاتحاف» ليصل الى نتيجة مفزعة، وهي أن الاستبداد يؤدي في خاتمة المطاف الى الزهد في الأوطان !
ماذا يبقى من حب الوطن اذا فقد الانسان حريته، وحقه في العيش الكريم؟ قال صاحبي: ان لدفاعك عن حاجة التيار العقلاني لتوظيف الجوانب المضيفة في التراث العربي الاسلامي من أجل أهداف نبيلة في معركة الحاضر والمستقبل جذورا في الفكر الاصلاحي التونسي.
قال صاحبي: أود أن أسأل هنا: لماذا هذه القضية ليست مطروحة اليوم في المجتمع الغربي ؟ قلت: الوضع يختلف تماما، وظفت بعض التيارات في مرحلة تأسيس الدولة الوطنية التراث اليوناني والروماني، ولما تحولت الحداثة الى ظاهرة كونية أصبح هذا التراث تراثا فعلا ينكب على دراسته أهل الاختصاص.
لو يستعمل الخطاب السياسي أو الفكري هناك التراث الروماني مثلا فانه سيضحك الناس على أصحابه. تراثنا لم يتحول الى تراث، بل ما يزال يؤثر في حياتنا اليومية، يؤثر في أفراحنا وأتراحنا.
لما أصابت ظاهرة النقاب الناس بالهلع التجأت كما تذكر الى التراث، ورويت في هذا الفضاء ما جاء في كتب التراث الاسلامي عن الصالون الأدبي بالمدينة لصاحبته سكينة بنت الحسين حفيدة الرسول (ص)، وهي نبيلة شاعرة، ناقدة من أجمل نساء عصرها، تجالس الآجلة من زعماء قريش، ويوم مجلسها كبار الشعراء، وروى أحد معاصريها قائلا: أتيتها واذا ببابها جرير، والفرزدق، وجميل، وكثير، وكانت من أجمل الناس شعرا (بفتح الشين) تصففه تصفيفا لم ير أحسن منه، وأصبح نموذجا تقتدي به نساء المدينة عرف «بالطرة السكينية» نسبة اليها.
من هو المغفل الذي يعتقد أن حفيدة الرسول كانت تدير مجلسها الأدبي، وهي منقبة، وكيف يمكن أن يرى الناس جمال وجهها، وتصفيفة شعرها اذا كانت منقبة ! فأنت ترى أن حاجتنا للاستنجاد بالتراث المشرق لمواجهة موجة الردة والرداءة ما تزال ملحة.