انسحب الأمريكان من العراق بعد أن احتلوه ودمروه ومزّقوه وقطعوا أوصاله وجعلوا شعبه الواحد يتحدث بلهجات لم يكن هذا الشعب يعرفها أبدا. كثيرا ما أُسأل من بسطاء التونسيين الذين التقيتهم ولا يعرفون مني مواقفي ولا مشاغلي الكتابية سواء في أعمالي الأدبية أو كتاباتي الصحفية ذلك السؤال الذي لم أتوقع يوما أنني سأسمعه إن كنت من هذه الطائفة أو تلك؟
فيكون جوابي أني عربي مسلم، أقولها هكذا بشيء من الحسم لأنني شخصيا أحد الذين آمنوا بالجوهر لا بالتراب الذي يلتصق عليه رغم أن أحمد شوقي يقول:
«إنّ الجواهر في التراب جواهر والأسد في قفص الحديد أسود» أذكر ذات يوم بعيد في عراق الثمانينات أن ولدي (الطبيب حاليا) سألني من أي طائفة نحن؟ كان سؤاله بريئا ولكنه تجرّأ على توجيهه لي ربما بعد سماعه شتات أحاديث بدأت تتسرّب الي المجتمع العراقي وخاصة بعد الحرب الطويلة ثمّ الحصار والصراع الصامت على تعزيز المواقع الطائفية في هذا البلد الذي كتب عليه أن لا ترتوي أرضه إلاّ من دم أبنائه.
وقلت له الجواب نفسه الذي لا أحبّ جوابا غيره: (نحن عرب مسلمون) وأضفت له: ولا حاجة لنا بالتقسيمات التي تضرّ بنا وتفرّق كلمتنا كعراقيين. وبهذه الأريحية كنا نستقبل ببغداد الأدباء والمبدعين الذين اضطرتهم ظروفهم لأن يغادروا بلدانهم ويقيموا في العراق.
كان الواحد منهم يأخذ أضعاف رواتبنا وكان يحصل أيضا على منحة إيجار البيت الذي يسكنه ولم ننظر لهذا الموضوع بعدم رضا، ولم أسمع من يحتج حتى ولو بالهمس. لماذا؟ لأن التربية العراقية كانت تربية وطنية وقومية حقيقية، غرسها فينا مربّون أفذاذ ليس هناك من تغادره صورهم وهم ينصرفون الى العلم والمعرفة وتعليم طلبتهم الوطنية الحقة وكبرياء الانتماء لأمة عريقة.
وجاء الأمريكان ومعهم شعار بريطانيا التي كانت عظمى ولم تعد كذلك حيث حولها طوني بلير الى تابع ذليل للسياسة الأمريكية في المنطقة، شعار يقول (فرّق تسد). ودخلوا العراق به، أرادوا أن يفرّقوا حتى يسودوا ولكنهم فرّقوا ولم يسودوا، ألهوا البعض بالمناصب والامتيازات ولكن كل هذا وفقا لقانون «المحاصصة» اللعين، ومادامت هذه الوظيفة أو تلك الوزارة حصة طائفة وعرق فهي حصة مقرّرة باسمهم ولا تذهب لغيرهم ولذا لم نستغرب عندما جيء بإمام جامع من جوامع بغداد ليشغل منصب وزير ثقافة، هكذا، وزير ثقافة للعراق بلد المبدعين الكبار والفنانين الأفذاذ والأدباء المؤسّسين الرواد من الجاحظ والمتنبي حتى جواد سليم وبدر شاكر السياب والبياتي وعبد الرزاق عبد الواحد والأجيال المتوالدة اللاحقة.
لكنها «حكمة» المحاصصة التي يجب أن تطاع مادام «بريمر» قد جاء بها. ولما كان الجيش رمز الوحدة الوطنية وجب حلّه، وهذا ما كان فتناثرت فرق البلاد. وقف العراقيون من جنوبهم وشمالهم، من شرقهم وغربهم وتصدّوا لهذا المشروع المرفوض فالدين للّه والوطن للجميع، والشعب الواحد متداخل في ارتباطاته، أبناء هذا العرق وبناتهم يتزوجون من ذاك وهذه الطائفة من تلك، والأبناء سلالة من منهل وطن واحد.
انسحب الأمريكان من العراق شبه هاربين، لم يستطيعوا البقاء في بلد كل ما فيه يعاديهم، كل ما فيه يرفضهم. انسحبوا وتركوا وراءهم خرابا من الصعوبة أن يرمّم بهذه السهولة، تركوا وراءهم بلدا مخترقا، بلدا مقسما فأبناء هذه المنطقة لا يصلون لتلك. انسحب الأمريكان وخلفوا وراءهم دما كثيرا، خلفوا أرامل ويتامى ومشوهين ومهجّرين وهاربين واخوة أعداء.
وفي بلد تفوق درجة حرارته صيفا أكثر من خمسين درجة لا يحصل الناس على أربع ساعات من الكهرباء لتشغيل وسائل التبريد. منذ 2003 وحتى اليوم لم تحل مشكلة الكهرباء ومن أكلمهم ويكلمونني من الأصدقاء يعبرون عن مأساة ما هم فيه. تجربة احتلال الأمريكان للعراق لا نتمناها لأي شعب صديقا كان أم عربيا، لا نتمناها ويجب أن تكون درسا ماثلا.
لكن البشاعة التي تركها الأمريكان وراءهم والأكثر دمارا وفتكا هي التي تحولت الى مشهد يومي وأعني بها التفجيرات. كأن هناك مباراة في القتل، من يستطيع أن يقتل أكثر؟ والضحايا هم أهلنا، أبناء وطننا الذي لم نغير رأينا ومازلنا نراه واحدا. تفجيرات مرفوضة، بغيضة، يقترفها آثمون ليس في أجسادهم قلوب تنبض بعشق الحياة، ذهب الأمريكان وتركوا لنا خزائن القتل.