بقلم : عبد الرحمان مجيد الربيعي أصبح المحب للعراق العربي خائفا، هذا العراق الذي علّم العالم الكتابة ومن أرضه بدأت رحلة أبي الأنبياء ابراهيم الخليل بلد سومر وآكد وأشور وبابل، بلد العدل والحق حيث أولى الشرائع شريعة العظيم حمورابي التي نظمت العلاقات بين البشر وبشفافية رائعة واعتمدتها الأمم المتحضرة في دساتيرها واستلهمت من روحها المتسامحة قوانينها. البلد الذي ظهرت منه احدى أجمل ملامح الدنيا «ملحمة جلجامش» والتي يتجدد حضورها في كل اللغات الحية بكل ما حملت من معان وعبقرية شعرية تعود الى آلاف السنوات قبل ولادة السيد المسيح عليه السلام. نعم، ان محبّي العراق خائفون عليه اذ ان ملامح الفتنة قد بدأت تظهر وتبرز مظاهر الحقد الخفي الكامن الذي خبأه أصحابه وراء شعارات اتضح أنها مجرد أقوال حتى يجدوا لهم موقعا و بعده يبدأ هجومهم. وكان الخوف في البداية الذي ثبّته في أول مقال لي بعد الاحتلال من التقسيم الطائفي والدليل الذي أكد لي مخاوفي هو طريقة ادخال من كانوا يسمون بالمعارضين وأصبحوا (موافقين) و(مذعنين) و(راضخين). وكان تشكيل مجلس بريمر على أساس عرقي وطائفي من أناس لا يمثلون حتى الطوائف والاعراق التي اعتمدوا كناطقين باسمها هو بداية اشعال الفتيل في (تحاصص) بغيض لم نكن نعرفه ولم نؤمن به، فقد ولدنا وطنيين فخورين بماضينا التليد الذي لم يحّنطنا ويشدنا للوراء بل كان ضوءا للآتي والقادم من الايام. أما انتماؤنا الى جغرافيا عربية واسعة من حدود هذه الارض الشرقية التي مثّل العراق بوابتها الى بوابتها الثانية المغربية المطلة على الأطلسي، فكان يجعل الواحد منا يحس بالقوة والزهو عندمايرى أن هذه الارض قد أوصلت الحضارة الى أوروبا وعلمتها ما لم تعلم (حضارة الاندلس) وصولا الى الصين أيام مجد الخلافة العباسية. مرت بنا كوطن عربي ظروف أكثر من صعبة وتوالت الاحتلالات كل احتلال يسلمنا الى آخر، ومع هذا لم ينكسر هذا الوطن الناطق بلغة الضاد من المحيط الى الخليج. ولم يذعن حتى بعد ان زرعوا في قلبه كيانا لقيطا عنصريا أصوليا أعمى اسمه «اسرائيل» واعترفت به الأممالمتحدة على حساب تشرد الملايين ومازالوا على حالهم رغم ان عاما قد مضت على انشاء كيان الاغتصاب هذا. ومع كل ما نالهم لم يرضخوا واعتبروا فلسطين مسؤولية لا الجيل الحالي فقط بل والأجيال التالية أيضا. ثم ها هو العراق الواحد الموحد وقد يحوّل الى ما يمكن أن نسميه «عراقات» أقولها والغصة في الصدر لأن بعض الذين ينتمون اليه قد قايضوا إرادة الوطن واستقلاله وقبلوا أن تجتاحه قوة لا رادع لها مقابل أن تسميهم حكاما! لعل من أصعب القضايا التي عاناها العراق منذ بداية تأسيس الدولة العراقية عام قضية الأكراد الذين يقطنون بشكل رئيسي في المناطق الشمالية حيث الجبال الحصينة. ومن المؤسف ان تواجدهم هناك وتحت ضغوط بعض زعمائهم القبليين قد حولوا نسبة كبيرة منهم الى بنادق للإيجار، وكلما أرادت دولة أو فئة اقلاق الحكومة المركزية في بغداد لجأت اليهم ليس في العهد الجمهوري فقط بل وفي العهد الملكي أيضا بدليل ان البرزاني مصطفى قد عاش حياته مبعدا في الاتحاد السوفياتي وأعاده للعراق الزعيم عبد الكريم قاسم. عاد عن طريق بغداد حيث أقيمت الاحتفالات بعودته ومازالت المظاهرات المرحبة، ولكن ما ان استقر به المقام حتى (عادت حليمة الى عادتها القديمة) وأعلنوا الحرب التي سالت بسببها دماء كثيرة في عهد قاسم وعهد عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمان ثم البكر فصدام. وكانت علاقتهم بشاه ايران قوية وأمدهم بالسلاح ليرهقوا النظام المركزي، ولكن ما ان وقّع صدام وكان نائبا للرئيس وقتذاك عام اتفاق الجزائر الشهير مع الشاه حتى فرّ الملا مصطفى وأتباعه وتركوا الآلاف من المشردين الجياع. وقد تسنى لي شخصيا ان أكون ضمن وفد من الأدباء والصحفيين الذين زاروا المنطقة الشمالية وصولا الى الحدود الايرانية فلم نجد غير البؤس والألم والمرض. ووصلنا حتى الى قصر البرازاني المبني على سفح جبل، له أبواب خلفية تؤدي الى الحدود الايرانية ومنها كان فراره ومن ثم موته بالسرطان. وعندما اشتعلت الحرب العراقية الايرانية، كان زعماء الأكراد مع الايرانيين ضد العراق الذي من المفترض ان يكون وطنهم، وبانتهاء الحرب فروا من جديد، وتسنى لي ثانية ان أكون مع وفد من الأدباء والكتاب المعروفين حيث وصلنا الى قمة أعلى جبل عراقي في الحدود مع ايران. وعندما رسم الامريكان ومعهم البريطانيون خطوطا في الشمال والجنوب. عادت البنادق لتكون مع الأمريكان وليصبح شمال العراق مرتعا لكل من حمل العداء للعراق الواحد رغم انهم انقسموا الى كيانين داخل هذه المنطقة توزعهما الطالباني والبارزاني اللذان يكّن أحدهما للآخر العداء الذي لم يلبث ان ينفجر مما اضطر البرازاني للاستنجاد بالرئيس العرواقي السابق صدام ليبعد قوات الطالباني عن عاصمته اربيل التي كادت ان تستولي عليها. أما في ظل الاحتلال فصار أكراد العراق وكأنهم القومية الأولى والمفضّلة لدى المحتلين ودخل الزعيمان الطالباني والبارزاني ومعهما سياسيون أكراد آخرون مجلس بريمر وصار منهم وزير الخارجية (زيباري) على فكرة لمن لا يعرف هو خال مسعود البرزاني في وزارة حكم بريمر واختيار كردي لوزارة الخارجية ليس أمرا بريئا أبدا، رغم أنني أبعد ما أكون عن الشوفينية، وانما لأغراض قادمة أخرى ستلقي تبعتها عليهم (الاعتراف بإسرائيل الذي أصبح مسألة وقت فقط وأتمنى ان أكون على خطأ). إن الأكراد يحسون اليوم وبحكم الدلال الأمريكي الممنوح لهم بسخاء انهم يعيشون في أزهى عصورهم كأن ليس هناك احتلال وان الفرصة سانحة جدا لهم ليحققوا كل ما أرادوه وحلموابه وهو تأسيس دولة في شمال العراق. لكن لابد لهذه الدولة من مقومات اقتصادية قوية لن يحققها الا ضم كركوك المعروفة بمخزونها النفطي الهائل. هل صدفة ان يطالبوا مجلس الحكم وهم فيه ولكن الرسالة موجهة الى الادارة الأمريكيةالمحتلة بضم كركوك بفدراليتهم؟ وهل صدفة أن يجيّشوا المظاهرات في كركوك التي حشدوها من المدن الكردية الاخرى للمطالبة بهذا الضم؟ ولنلاحظ ان المتظاهرين وهم عراقيون أو من المفترض هكذا لم يكونوا يرفعون علم العراق الوطني بل العلم الكردي ومعه العلم الأمريكي الذي بات حرقه تقليدا في كل تظاهرات العالم الا في كركوك، فهل صدفة (أيضا) ان يطلب الزعيمان الكرديان من أتباعهما رفع العلم الأمريكي لا العلم الوطني؟ انهم متسرّعون يريدون (نهب) كل ما يريدونه رغم انه لا بريمر ولا مجلس حكمه ولا الوزراء ومن يحركهم من مستشارين صهاينة يملكون حق منحهم مدينة مثل كركوك وهم قوة احتلال وفق قرار أممي؟ ثم ان كركوك مدينة تمثل التعايش العراقي في أحسن صورة، ان الأكثرية هم من التركمان وبعدهم العرب والأكراد وكذلك هناك كل الديانات من المسيحيين بطوائفهم والمسلمين بطوائفهم كذلك. ثم ان طوز خرماتو هي مدينة تركمانية بالكامل تقريبا، والقرى المسيحية التابعة للموصل والعربية او المختلطة التابعة لمحافظة ديالى (وكلها مدن يطالب الزعيمان الكرديان بضمها الى فدراليتهما). ولا أحد يجرؤ وتحت اي ظرف كان ان يسمح بأن يتم الاستيلاء على هذه المدن مهما كان الرخاء الاحتلالي ومهما كانت العلاقة بين الاثنين قوية، ثم ان كركوك يعتبرها الأتراك خطا أحمر ولا يسمح للأكراد بأن يجعلوا التركمان أقلية في فدراليتهم (التعبير مجرد لعب بالمصطلح اذ هي دولة ستتسع لاحقا لما يسمونه كردستان التاريخية). وما تحذيرات عبد الله غول وزير الخارجية التركي من المساس بوحدة العراق الا رسالة موجهة للزعيمين الكرديين المنتشيين في ظلال الاحتلال ورضاه عنهم بأن لا يلعبا بالنار. وفي كل ما سيحصل أو حصل يبقى الشعب العراقي الخاسر الوحيد. ومن هنا ينبع الألم ونضع أيدينا على قلوبنا خوفا.