لما توسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فتعامل معهم النبي بقبول لوجودهم في ظلال الدولة الإسلامية، وعقد معهم معاهدت من شأنها أن تؤمن لهم حرية ممارسة شعائرهم، والاعتقاد بما يعتقدون من ديانة. فلقد جاء في معاهدة النبي لأهل نجران: «ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم... وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته. ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا، فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين».
وكان أول لقاء بين الإسلام «الدولة» وبين غير المسلمين المواطنين في دولة إسلامية هو الذي حدث في المدينةالمنورة غداة الهجرة النبوية إليها.
وكان لا بد للدولة من نظام يرجع أهلها إليه، وتتقيد سلطاتها به (دستور). عندئذ كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وسلَّم - والغالب أنها كتبت بإملائه شخصيا - الوثيقة السياسية الإسلامية الأولى المعروفة تاريخيا باسم: وثيقة المدينة، أو صحيفة المدينة، أو كتاب النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى أهل المدينة، أو كما يسميها المعاصرون: دستور المدينة.
وفي هذه الوثيقة نقرأ أنها: كتاب من محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ أنهم أمة من دون الناس؛ وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم. وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. وأن لبني الشُطَيْبة مثل ما ليهود بني عوف. وأن البر دون الإثم. وأن موالي ثعلبة كأنفسهم. فهذه تسع قبائل، أو تجمعات يهودية، تنص الوثيقة عليها، وتقرر لهم مثل ما ليهود بني عوف، وتضيف إلى ذلك أن مواليهم وبطانتهم كأنفسهم. وتقرر الوثيقة النبوية أن بينهم النصح - هم والمسلمون - على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصر والنصيحة، والبر دون الإثم، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره (أي الله شاهد ووكيل على ما تم الاتفاق عليه). فهذه الوثيقة تجعل غير المسلمين المقيمين في دولة المدينة مواطنين فيها، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين.