مرّت اليوم أكثر من سنة ونصف السنة على 14 جانفي 2011 واليسار هو نفسه بانشقاقاته وتشتته والعجز عن التوحيد بل بدأ في التخلّي عن مفرداته الإيديولوجيّة، فما المصير الذي ينتظر تلك الأحزاب؟ أسس اليسار التونسي منذ أواخر العقد الأول للقرن العشرين مع تأسيس الفرع الفيدرالي للحزب الاشتراكي الفرنسي الذي تحول مع مؤتمر «تور» الذي عقد سنة 1919 إلى الفرع الفيدرالي الاشتراكي التونسي، وفي 1920 ومن استتباعات مؤتمر تور تأسست أول نواة شيوعية في تونس وسميت فرع الأممية الشيوعية. وكان الفرع الفيدرالي للأممية الشيوعية أولى الحركات الشيوعية في بدايات القرن العشرين مستمدّا قوته من المثال السوفياتي الصاعد آنذاك، وسرعان ما اصطدم برجال الدين المحافظين قبل أن يتم قمعه وحلّه بالقوة من قبل المستعمر الفرنسي بين (1924 1925)، ورغم قصر مدة عمله فإنه يبقى النواة الأولى للفكر اليساري التونسي وأول من نادى بالتحرر الوطني.
الشيوعيون الأوائل
وحلّ مكان الفرع الفيدرالي للأممية الشيوعية الحزب الشيوعي التونسي الذي كان من حيث التكوين والأفكار، فرعًا تونسيا للحزب الشيوعي الفرنسي، ورغم انخراطه في النضال إلى جانب العمال وضد الفاشية والنازية واحتلاله مكانة مرموقة في الشارع التونسي خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتطور علاقته بالاتحاد العام التونسي للشغل، فإن التوجّه البورقيبي للدولة الحديثة سرعان ما قمع الحزب بعد قمعه لليوسفيين وقام بتحييد اتحاد الشغل، لذلك سرعان ما احتاج المشهد السياسي التونسي إلى قوى أكثر راديكالية في صراعها مع الديكتاتورية الناشئة وستجد ضالتها في ما يسمّى اليسار الجديد الذي تبلور مع حركة آفاق.
وبعد قمع الحزب الشيوعي التونسي والملاحقة البوليسية للطلبة في الجامعة، قرر عدد من الطلبة في باريس سنة 1963 تأسيس «تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي» وإصدار مجلّة برسبكتيفPerspectives التي قامت بتحليل معمّق للوضع السياسي التونسي.
وقد حاول التنظيم العمل من أجل وحدة كامل فصائل اليسار خاصة وأن مؤسسيه كانوا ينتمون لمختلف التوجهات الفكرية من القوميين العرب إلى الشيوعيين والماويين. وبعد سنة من العمل في فرنسا التأم لقاء في المنستير تم فيه تحويل التنظيم إلى تونس، وتواصل العمل التحليلي والدعائي في الجامعة التونسية دون تبنّي إيديولوجيا واضحة قبل أن يقرّر اتخاذ الماوية مرجعية له.
وأصبح العمل السياسي منذ ذلك الحين تحريضيا بالأساس وسرعان ما اصطدم هذا التجمّع بالسلطة التي حاكمته في 1968 بسبب دعواته المتكررة للتظاهر ومواجهة البوليس مباشرة، وأسفرت هذه المحاكمة عن أحكام بالسجن تجاوزت 150 سنة لعدد من أعضاء التنظيم. وكانت مناسبة لإعادة النظر في توجهات الحركة مما نتج عنه، في بداية السبعينات، محاولة تحوّل التنظيم إلى حزب عمالي يقوم بالثورة الاشتراكية ويلتحم بالعمّال، كما تمّ إصدار نشريّة «العامل التونسي» وكانت ناطقة بالعامّية التونسية ورفّعت من حدّة خطابها ومن نسق توزيعها للمناشير وتحريضها المتواصل ضد السلطة خاصة في صفوف العمّال ومرّة أخرى تصدّت لها السلطة البورقيبية بالقمع الشديد سنة 1974 في المحاكمات الشهيرة التي أوقف فيها 303 أشخاص.
و أسدل الستار على تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي نهائيا غير أنه ترك بصمته الواضحة على المشهد السياسي التونسي الذي اكتسبت فيه المعارضة، إلى جانب التوجه اليساري الإيديولوجي، نوعا من الراديكالية مكنتها من أن تقض مضجع السلطة وتدفعها إلى محاولة الانفتاح السياسي تحت قيادة الوزير الأول محمد مزالي، بعد أحداث 1978 مع الاتحاد العام التونسي للشغل والانتفاضة المسلحة بقفصة 1980 إلى جانب المد الإسلامي.
وفي إطار هذا الحراك السياسي أسّس أحمد نجيب الشابي، الذي كان مناضلا في حزب البعث ومن بعده في حركة آفاق، أسّس حزب « التجمّع الاشتراكي التقدّمي » (الذي سيتحول فيما بعد إلى الحزب الديمقراطي التقدمي) طامحا في أن يكون وسطيا.
ومن جهة أخرى، قرّر الماركسيون المنتمون للعامل التونسي تأسيس أول حزب ماركسي في تونس تحت اسم « حزب العمّال الشيوعي التونسي»، وخرج لأول مرة إلى شبه العلنية من خلال أمينه العام حمة الهمامي ونائبه محمد الكيلاني سنة 1986. ورغم انعدام شعبيته في الشارع التونسية، إلا أن مواقفه اتسمت بالحدة والراديكالية سواء تجاه السلطة أو المعارضة (الإصلاحية) وسرعان ما تمّ قمع الحزب ومنع أنشطته من قبل نظام بورقيبة.
وبعد انقلاب 1987عاشت الجمهورية التونسية هدنة سياسية مكنّت الأحزاب من العمل العلني من خلال الترخيص القانوني (كالتجمع الاشتراكي التقدمي) أو السماح للصحف الحزبية بالظهور (كالبديل لحزب العمال)، غير أن عددا من العوامل الموضوعية وغير الموضوعية أدّت إلى تدهور الوضع السياسي في تونس بسرعة كبيرة.
الفعل السياسي والتشتت
ولم تكن هناك النيّة في التخلي عن مصالح الحزب الحاكم والطبقة الملتصقة به، ومن جهة أخرى كان الوضع في الجزائر مشتعلا وكان الكل يخشى تكرار نفس السيناريو في تونس. كما أن حرب الخليج، ومساندة بن علي المطلقة للعراق ووقوفه ضد « القوى الإمبريالية »، إلى جانب عدم احترام عدد من الإسلاميين المترشحين للانتخابات الوجه الديمقراطي الذي أرادت أن تظهر به حركة النهضة آنذاك. كل هذه العوامل جعلت جزءا من اليسار التونسي، الذي فقد بريقه وقدرته على التعبئة والإقناع بسبب الزحف الإسلامي وسقوط الشيوعية (1986-1990) كبديل ممكن للنظام الرأسمالي، ينخرط في تصوّر بن علي بإمكانية « إقامة تعددية دون إسلاميين».
ورغم تعاون البعض مع النظام النوفمبري ورفض الباقي التعامل معه، فإن عصا القمع سرعان ما توجّهت نحو اليساريين بعد الانتهاء من حركة النهضة. ويبقى مثال « خميس الشماري »، التجمّعي (الاشتراكي)، والذي التحق ببن علي من أجل التنظير لفكرة تجفيف المنابع الهادفة للقضاء على الإسلام السياسي من خلال علمنة التعليم والثقافة (ويختلف تقييم هذه الفكرة من طرف إلى آخر، فمنهم من يراها منطقية لأهمية العلمانية في النظام الجمهوري ومنها من يراها ضربا للإسلام لا للإسلام السياسي) قبل أن يُحاكم بخمس سنوات سجنا بعد انتهاء مدّة الود مع النظام السابق، ويبقى هذا المثال الأكثر فصاحة وتعبيرا عن عدم رغبة النظام في تطوّر أي تحرّك سياسي خارج نطاق مصالحه وأهوائه.
وواصل النظام تفكيكه وخنقه للمشهد السياسي التونسي وتواصلت المحاكمات للأحزاب اليسارية التي انحسرت عن الساحة لتنضوي تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل أو الاتحاد العام لطلبة تونس أو حتى تحت مسمّيات أخرى كاتحاد أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل بتونس بعد استحالة العمل السياسي المباشر وارتفاع شدة القمع على كل من يُخالف السلطة، كما واصل الحزب الشيوعي التونسي، بعد تحوّله إلى « حركة التجديد» إلى جانب الحزب الديمقراطي التقدمي والتكتّل من أجل العمل والحرّيات (وريث الانشقاق عن حزب الدستور ثم الانشقاق عن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين)، واصلت هذه الأحزاب الثلاثة والمعترف بها قانونيا، واصلت النضال الإصلاحي ضد بن علي دون الحصول على نتائج ملموسة.
وساهم تشرذم اليسار الشيوعي في أفول نجمه، فمثلا تملك العائلة الوطنية الديمقراطية ذات التوجّه الماوي وزنا لا يُستهان به في الجامعة التونسية وفي النقابات، غير أن التصلّب الإيديولوجي جعلها مثلا في خلاف مع حزب العمّال بسبب توصيفهم للاقتصاد التونسي كاقتصاد رأسمالي وبالتالي اعتبار الثورة القادمة ثورة اشتراكية، في حين يعتبر الوطد أن الاقتصاد التونسي شبه إقطاعي شبه مستعمر وبالتالي فإن الثورة القادمة هي حتما وطنية ديمقراطية، كما أنهم، عكس حزب العمّال الذي خرج إلى شبه العلنية في أواسط الثمانينات، يعتبرون العمل السرّي والعفوي أساسا (وهو ما يفسّر عدم انخراط كل مناصري العائلة الوطنية الديمقراطية في «حركة الوطنيون الديمقراطيون» برئاسة شكري بالعيد حتى بعد 14 جانفي، شأنها شأن توجهات يسارية أخرى كرابطة النضال العمّالي والتروتسكيون التي لم تبرز إلى العلن في شكل تنظيمات حزبية واضحة المعالم.
ورغم أن «الثورة» رفعت شعارات يسارية بالأساس (شغل حرية كرامة وطنية) (أرض، حرية، كرامة وطنية) ونادت بالعدالة الاجتماعية وهي إحدى أسس اليسار إلا أن الانتخابات أبت إلا أن تعطي لليسار حجمه الواقعي والذي يستحقه خاصة في وضعية التشتت والصراع والتي تواصلت بعد انتخابات المجلس رغم ما يروج له يوميا عن محاولات للتوحيد لكن الأمر الوحيد الذي أفلحت فيه عديد الأطراف المحسوبة على اليسار هو نزوحها في اتجاه الوسط فاليمين ولعل اكبر مثال على ذلك ما قام به الحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد كما قام حزب العمال بعملية مُقنّعة حيث حذف كلمة «الشيوعي» من اسم الحزب وربما تكون الخطوة الأولى للنزوح إلى الوسط وربما إلى اليمين، وأمام هذا الواقع المظلم برزت بعض العناصر التي تحاول محاكاة تجربة آفاق.
أحزاب تتملّص من الشيوعية والاشتراكيّة واليساريّة
• الحزب الشيوعي التونسي: تأسس سنة 1920 وأصبح حركة التجديد في أفريل 1993. • التجمّع الاشتراكي التقدمي:تأسّس في 13 ديسمبر 1983 وأصبحت تسميته الحزب الديمقراطي التقدمي سنة 2001 فالحزب الجمهوري سنة 2012. • حزب العمال الشيوعي التونسي: تخلى مؤخّرا عن لفظتي الشيوعي والتونسي واكتفى بتسمية «حزب العمال». • الحزب الاشتراكي اليساري: من المنتظر أن تحذف كلمة اليساري خلال أسابيع بمناسبة انعقاد المؤتمر الوطني للحزب ليُصبح الحزب الاشتراكي حسب التوقعات الحالية.