بات جليّا أن الابتسامات الصفراء المتبادلة بين الفريق الحكومي وقيادة الاتحاد لا تحجب عمق الخلافات، ولا تنفي اتساع رقعة التنافر بين الفريقيْن.ويحتّم الظرف الحرج الذي تمرّ به البلاد وضع حدّ لهذه العلاقة المأزومة التي ستخرج منها تونس مهزومة بلا شك. بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الطرفيْن، ليس غريبا أن تتشنّج العلاقة بين السلطة التنفيذية والطرف النقابي. فطبيعة العلاقة بينهما تحتّم التصادم والصراع، والجلوس إلى مائدة المفاوضات العسيرة للوصول إلى حلول توفيقية قد لا تكون منصفة لأحد الأطراف بالضرورة. لكن أن تتحوّل العلاقة إلى حلبة صراع معلن وخفيّ ينتهي بالقطيعة فهذا لا يصبّ في مصلحة البلاد عموما.إذ لا مناص من تعايش الطرفين، واجتماعهما على طاولة المفاوضات، رغم الاختلافات ورغم الصراعات المفروضة.
إنّ من واجب الحكومة باعتبارها القيّمة على تسيير شؤون البلاد، و المسؤولة على رسم توجهاتها الاقتصادية والاجتماعيّة، العمل على تشريك الاتحاد في مقارباتها و التفاعل مع مقترحاته متى قدّم تصوّرات أخرى مغايرة قد تتعارض مع السياسة التي رسمتها الحكومة، والسعي نحو إقامة حوار مباشر معه وفي أعلى مستوى كي تتضح الأمور وتنجلي الغمة. وليس من المفيد، عاجلا وآجلا، أن تعلن الحكومة، في الظاهر، أنها تعتبر الاتحاد شريكا وتتغاضى في المقابل عن التجاوزات، وعن الأضرار التي ألحقتها مجموعات منفلتة، أو موجّهة، بمصالح الاتحاد عبر استهداف مقراته بالحرق أو برمي الفضلات.ومما يسيئ إلى العلاقة بين الطرفين، ويصبّ زيت الفتنة على نار الصراع، ما يتداوله بعض مرتزقة «الفايس بوك». فقد انتشرت حملات تحريضية تشكّك في وطنيّة الاتحاد، وأعضاء مكتبه التنفيذيّ وكأنه أمسى عدوّ البلاد والعباد، وطرفا سياسيا يناوئ «الترويكا»!!. وليس أدل على هذه الحملة من نشر صورة «حسين العباسي» وهو يصافح «بن علي».
ألم يعلم مَنْ أراد التشهير بنشر هذه الصورة أن النقابات في العالم لا تقاطع الحكومات مهما كانت ظالمة بل هي مطالبة بأن تجلس إليها وأن تتفاوض مع كل سلطة قائمة!!؟؟إن النقابة لا تُحاسَبُ على الجلوس مع حاكم مجرم أوعلى مصافحته بل على النتائج.صحيح أنّ الاتحاد ضعف زمن «بن علي»، وقدم تنازلات إلى حدّ أن بعض أعضاء المكتب التنفيذي كانوا شركاء في منظومة الفساد. لكن الاتحاد كهيكل معنيّ بالدفاع عن حقوق العمال والموظفين، اضطلع بدوره وخاض نضالات مشرفة، وشن إضرابات في أكثر من قطاع رغم الحصار ورغم القمع.
ليس في مصلحة الحكومة أن يسقط «الاتحاد»(أكبر قوّة في البلاد كما يردّد مناضلوه).. إن هذا الهيكل شريك أساسي في تركيز دعائم الحوكمة الرشيدة، وبناء منوال اقتصادي واجتماعي ينقذ البلاد من الأزمة. إنّ أي حكومة تمارس الهروب إلى الأمام لتصطدم بالاتحاد ستجد نفسها خاسرة بجميع المقاييس.لأنّ وراء الاتحاد-وإن جار عليه الزمان وضعف-جحافل من الأجراء والموظفين لا يقبلون أن يتلاعب أيّ طرف بقوت عيالهم.فالاتحاد ليس مشكلة بل هو جزء من الحلّ.ومن الطبيعيّ أن تنطلق المفاوضات بين الحكومة والاتحاد انطلاقة عسيرة ثم، بصفاء النيّة، وبتحكيم العقل، تنتهي الأطراف في الغالب إلى حلّ وسط يراعي إمكانيات البلاد، ويعزّز قدرة الأجير الشرائية. ولا يمكن لعاقل أن يتصوّر أنّ الاتحاد يريد تخريب البلاد عبر سياسة الإضرابات التي يدعو إليها.
إن الحكمة تفرض اليوم أن تتخلّى الحكومة عن سياسة المراوغة والإيهام بأنها ليست في صراع مع الاتحاد، وأنّ ما يجري ليس إلا تضخيما إعلاميا تتلهف له «صحافة العار».فكلّ المؤشرات تدلّ على أن حبل التواصل بين السيّد حمادي الجبالي رئيس الحكومة و«حسين العباسي» قد انقطع. وليس من مصلحة الطرفيْن كلّ هذا العناد. وإذا كانت الحكومة تريد أن تهدّئ الأوضاع فمن المستحسن الدعوة إلى حوار وطني تشارك فيه كل القوى السياسية للتشاور حول كل المسائل التي أمست تعرقل البلاد، وتحيد بها عن مسارها الصحيح.
ومن الغريب حقّا، أن وزراء في الحكومة لم يستوعبوا بعد حجم الاحتقان في البلاد فواصلوا خطبهم الحماسية التي لا تحلّ المشاكل ولا تزيد إلا في تأزيم الوضع. من ذلك تصريحات وزير الخارجية على شاشة التلفازالتي وصف فيها المتظاهرين في «سيدي بوزيد» بأنهم يساريون متطرفون.فهل في هذا الخطاب اللامسؤول ما يوحي بأنّه ينوي المساهمة فعلا في حلّ الأزمة و في تهدئة الخواطر والعمل على معالجة الوضع؟؟. فإلى متى هذه التصريحات المنفلتة التي لا تعبّر عن حكمة ودراية بشؤون سياسة البلاد والعباد؟؟.
إنّ الحكومة التي تجشّمت عناء الحكم في ظرف اقتصاديّ صعب، مدعوّة إلى أن تتوقف عن اعتبار الشرعية الانتخابيّة قضاء مسلطا، وحكما مقدسا يُرمى كلّ من يطالها بتهمة «عداء الثورة».وإذا تبيّن أنّ كثيرا من الأخطاء المرتكبة مردّها إلى الإجراءات المتخذة أو المقاربات التي اعتمدتها الحكومة فأين الضير في أن تعمد الحكومة إلى التعديل والتغيير بصرف النظر عن نتائج الانتخابات؟؟
إنّ الأزمة بين الحكومة والاتحاد ستتفاقم إذا تمسّكت الحكومة بتصلّبها، وعاملت الاتحاد بجفاء.وما على بعض الأطراف التي تهمس بأن الاتحاد يتحرّك وفق أجندا سياسيّة إلا أن تؤكّد هذا الزعم.
على أنّه وجب التذكير بأن النقابيين-على اختلاف مواقعهم- ليسوا فوق القانون. وإذا ثبت أنّ بعضهم قد أتى جرما يُحال بمقتضاه على المحاكم فلا الاتحاد ولا أي سلطة أخرى يمكن أن تعارض علويّة القانون.
إنّ تاريخ الاتحاد يؤكّد أنّه خدم البلاد زمن الاستعمار وبعده، وأنّه طرف رئيسي في رسم خارطة البلاد الاقتصادية والاجتماعيّة.وقد أثبتت الأيام أنّ الحكومات زائلة والاتحاد باق.تلك حكمة التاريخ التي يجب أن يتعظ بها الجميع. [email protected]