يجد المرء نفسه في شهر رمضان الكريم مشدودا الى جهاز التلفزة فكأن رمضان لا يستكمل إلا بمشاهدة ما يقدمه هذا الجهاز الذي ألغى معظم إن لم أقل كل الطقوس الرمضانية الموازية والتي عرفناها في سنواتنا البعيدة قبل أن يقتحمنا هذا الجهاز الرهيب الذي وحّد الأنظار. وإذا بدأت بالمحطات التونسية أقول إنها ذهبت بعيدا وأعتقد أن محبتي لتونس وعلاقتي بها تسمح لي بأن أقول إن هناك تماديا وصل الى حدود لم يكن أحد يرغب في وصول برامج التلفزة لها، فمن توريطات «سياسي في الفخ» الي «التمساح» بدا وكأن ما قدّم غايته تحويل رجال السياسة الجدد في تونس الثورة الي موضوع للتندّر لأن ردود أفعال البشر تختلف ماداموا يأتون بنوايا حسنة، كما أن فضائيات أخرى تورد أسماء أعضاء من المجلس التأسيسي أو الوزراء وقادة الأحزاب حاكمة أو معارضة، أو تقدمهم في «قلابس» كمادة لاستدرار المزيد من الضحك، ولعل مشاهد هذه الفضائيات حتى في بلدان عريقة في تقديم كل ما هو جريء مثل مصر لا أحد فيها يفكر أن يظهر رئيس الجمهورية وهو يغني (أنا طرطور) إذ أن هذه الكلمة نابية وقاسية جدا في الشرق فكيف برئيس الجمهورية في عهد الثورة وهو يردّدها مقلبسا؟
ولم يسلم رؤساء أحزاب من الشيخ الغنوشي الى الأستاذ السبسي فالأخ حمّه الهمامي وغيرهم من كل هذا الذي يجري ناهيك عن الرئيسين الجبالي (رئيس الوزراء) وبن جعفر (المجلس التأسيسي)! وكذلك بعض النواب أمثال السيدة محرزية العبيدي (نائبة الرئيس للمجلس التأسيسي) والأخ ابراهيم القصاص وغيرهما.
كل هذا لا نجده في التلفزيون المصري مثلا رغم أن امكانات القنوات المصرية الخاصة والعامة هائلة، لكن هناك حدود يتوقّف عندها المعد والمقدم وليس في هذا انتقاص من الحرية كما أن مواصلتها لا تعني الحرية، فالرموز السيادية التي تعني الوطن يجب أن تبقى بعيدة عن هذه الفوضى التي يبالغ فيها البعض ظنّا منه أنه يمارس حرية التعبير، أبدا.
أرجو أن يتّسع الصدر لملاحظة في العمق كهذه، إذ أن المواطن ماذا يقول وهو يرى حفلات التجريح هذه لجلب ضحكات متوخاة، ولكنها لن تأتي. عدا هذا فهناك كمّ من السذاجة والارتجال في بعض المسلسلات مثل «بنت ولد»، أو «دار الوزير» رغم توفر هذين العملين على ممثلين هم من خيرة ممثلي تونس!
هذه كلمات محبّة عنّت لي فارتأيت أن أكتبها لكن إذا ما مضينا الى ما هو عربي فسنتوقف عراقيا عند مسلسل «سليمة باشا» الذي قدمته قناة «الشرقية»، ويأتي هذا المسلسل ضمن توجّه تمارسه هذه القناة وبدأته بمسلسل «الباشا» عن رئيس الوزراء المخضرم نوري السعيد الملقب بالباشا، ثم مسلسل «آخر الملوك» عن حياة الملك فيصل الثاني، ثم «سليمة باشا» هذا العام، والمعنيّة هنا هي المطربة سليمة مراد اليهودية الديانة والتي رفضت الهجرة الى الكيان الصهيوني مصرّة على البقاء في العراق، ثم تعرّفت على المطرب الصاعد الشاب ناظم الغزالي الذي كان يصغرها بحوالي عشرين عاما والذي استمرّ زواجها به عشرة أعوام حيث توفي فجأة وذكر أنه قد تمّ تسميمه. أما من لقّبها بالباشا فهو الباشا نوري السعيد نفسه، وقد قدم المسلسل جانبا من الحياة البغدادية في خمسينات القرن الماضي، وعناية الطبقة الثرية بالفن فرأينا وجوه حسين مرو ان وبلند الحيدري وجعفر السعدي وابراهيم جلال وأشهر ملحني الثلاثينات والأربعينات ومطربيها صالح كويتي اليهودي الديانة ولقّب بالكويتي وهو العراقي لأنه ولد في الكويت حيث كان يعمل والده، وقد هاجر الى الكيان الصهيوني مضطرّا حيث أجبر على ذلك، وهناك واصل مشروعه في الحفاظ على الإرث الغنائي العراقي الذي كان أحد أبنائه. لقد اكتشفنا ممثلة رائعة ومثقفة هي ألاء حسين التي أدّت دور سليمة مراد بإتقان لكونها كانت واعية وملمّة بشخصية هذه الفنانة حيث راجعت ما كتب عن سليمة مراد مثل رواية الكاتب العراقي اليهودي الديانة نعيم قطان المقيم في كندا والمعنونة «فريدة» وقد ترجمها صديقنا ادم فتحي عن الفرنسية اللغة التي يكتب بها قطان ونشرتها دار الجمل (بيروت).
ولكن هذه الرواية وقد قرأتها بعيد صدورها ليست فيها حدود بين الوثائقي والمتخيل ليفيد منها كاتب النص الأخ فلاح هاشم. قناة «الشرقية» قدمت عن هذا المسلسل بعد انتهاء بثّه ثلاث حلقات نقاش أدارها صديقنا د. مجيد السامرائي صاحب البرنامج المعروف «أطراف الحديث» وشارك فيها عدد من المعنيين وممّن كانت لهم أدوار في المسلسل أمثال سناء عبد الرحمان التي مثلت دور مسعودة.
شقيقة سليمة والشاب الذي مثل دور حسين مروان وهو نجل الفنان الكبير فاضل خليل، وكم تمنّيت لو أن أحدا من أصدقاء حسين مروان قد أعانه على تجسيد الدور بتقديم صورة عن طريقة حسين مروان في الحديث، كما أن الحقيبة التي تحمل على الكتف لم تكن معروفة وقتذاك وهي موضة هذه الأيام. ولكن الخلاصة أن مسلسل «سليمة باشا» اعتمد مادة لم تكن على هذا القدر من الثراء ومع هذا نجح في إعادة تجسيد ذلك الزمن الجميل.
أذكر هنا أن سليمة مراد قد اعتنقت الديانة الاسلامية ودفنت بجوار زوجها ناظم الغزالي، وقد تسنّى لي أن أقوم بزيارة قبريهما بعد أن أبدى صحفيان فرنسيان معنيان بالموسيقى رغبتهما في ذلك والتي نقلتها لي عام 1987 الكاتبة والصحفية اللبنانية رشا الأمير، وذهبنا فعلا فوجدنا القبرين قد أحيطا بسياج حديدي ولكنهما كانا مهدمين فنقلت ما رأيت لوزير الثقافة وقتها الذي طلب من رئيس الديوان إعادة بناء قبريهما فهل فعل؟
سأعود لمواصلة حديثي عن كتاب الشاعر هشام عودة الحواري مع الشاعر سامي مهدي الأسبوع القادم.