بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي كل ما في العراق المنهوب أخذته المحاصصات، تحول الوطن الجميل الى غنيمة، ولنتأمل ما يسمى مجلس النواب وهو النموذج الواضح للطائفية السياسية التي يعملون على أن تكون الطائفة هي الهوية وليس الوطنية. فالعراق الواحد لم يعد أحد يتحدث عنه. في هذ المجلس يعد «النائب» أغلى نائبا في العالم وما يتقاضاه كل نائب شهريا أكثر مما يتقاضاه أعضاء الكونغرس الامريكي، كما أن لهذا «النائب» امتيازات لا يمتلكها نائب آخر في برلمانات الدنيا المنتخبة منها والمعينة، إذ أن هذا المخلوق الذي لا أحد يعرف من هو؟ ومن أين جاء؟ وما هي كفاءته؟ هذا المخلوق الخرافي يتقاضى حوالي نصف مليون دولار أمريكي سنويا عدا المخصصات وهي سخية جدا مادام النفط يجري من منابعه ماضيا بأنابيبه نحو الغرب. وعندما «يفوز» أحدهم بالنيابة فهو يعني أنه سيكون نائبا مدى العمر حتى وإن لم «يفز» في الانتخابات اللاحقة. فالراتب يأتيه بصفة راتب تقاعدي، وجواز السفر الدبلوماسي لا يسحب منه ولا من أفراد أسرته. أما بقية المسؤولين فالرواتب لا أحد يصدق كم تبلغ تنضاف اليها الاختلاسات الكبرى العلنية غالبا والعمولات وما شابه، وكل وزير محميّ بمن استوزره، بطائفته بحزبه، بمرتزقته. راتب الطالباني الشهري مثلا هو (75) ألف دولار زائد مليون دولار مخصصات نفقات سرية سنويا، لا تطلب فواتير لها، ولعله من هنا مصرّ على أن يجدد ولايته لسنوات أربع أخرى. وسط هذا الخراب والنهب المعلن الذي يمضي بلا عقاب ولا حساب، يتشرّد المبدعون الذين يشكلون الضمير الوطني العراقي، يتشرّد حتى من كان منهم داخل الوطن ولم يغادره لكنه لم يرتض الانسياق مع المشروع الطائفي وسلطة الاحتلال رغم ان هناك نفرا من المحسوبين على الأدب دخلوا مع المحتلين وكانت عقودهم معهم مباشرة وليس مع أي جهة ثقافية أو اعلامية داخل العراق. وعلى طريقة المثل الشعبي الذي يردده الناس هناك (من لحم ثوره إطعمه) فإن أصدقاء نقلوا لي أن البعض منهم يتقاضى راتبا شهريا يقدر بعشرين ألف دولار، أي ما يساوي تقريبا (28) ألف دينارتونسي!! فتصوروا!! هناك أدباء رموز يعيشون الكفاف، يصطلون بمعاناة الناس اليومية، لأنهم جزء منهم وليسوا متفرجين عليهم. لكنهم وهم في محرقة الرعب والخوف والغارات الارهابية بكواتم الصوت التي صارت شائعة جدا، وبالتفجيرات التي لا تفرق ولا تفرز بل تقتل فقط، وسط كل هذا هناك من يكتب قصيدة المحنة وقصة الجرح ورواية المأساة، هؤلاء هم الشهود الصادقون الذي ننتظر ابداعهم. ننتظر نصوصهم التي تحمل صليل الجرح ولسعة الجوع ومفردة التحدي، نصوصا غير التي نقرؤها في الصحافة المأجورة. ان النسبة الكبيرة من مبدعي العراق الرموز نأوا بأنفسهم من نهارات وليالي القتل والخراب ومازال حلمهم هو هو بوطن عراقي متماسك، لا فضل فيه على هذا أو ذاك الا بوطنيته وإخلاصه لإبداعه ورفضه بأن يحوله الى وسيلة ارتزاق. وأتوقف عند مثال قريب يتمثل في الحفل الذي أقامه الفنان العراقي إلهام المدفعي وفرقته في قاعة ألبرت هول الملكية وهي من أشهر قاعات العروض في لندن واستمرّ ساعتين بدعوة من الاذاعة البريطانية BBC التي تنظم هذا النوع من الحفلات منذ عشرينات القرن الماضي. لكن اللافت للانتباه أن هذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها فرقة عربية، إنها وثيقة امتياز للفن الراقي، فهذه الفرقة تعيد موروث الغناء العراقي الأصيل والخالد منذ رواده ورائداته الأوائل: زكية جورج عفيفة اسكندر صديقة الملاية زهور حسين صالح كويتي سليمة مراد ناظم الغزالي وفرقة الانشاد العراقية الشهيرة التي تغنّت بأجمل ما حمل الموروث العراقي من ألحان. لقد بهر الحاضرون بما سمعوه وعايشوه بجوارحهم وملأ القاعة عدا البريطانيين عراقيي المهاجر الذين طال بعدهم. وقد اعتبرت حتى الصحف البريطانية هذا الحفل امتيازا للفن العراقي، وقد كتب المعلقون مؤكدين أن ما شاهدوه في «ألبرت هول» مختلف تماما عن ذلك الذي يشاهدونه من شاشات التلفزة حيث التفجيرات والجوع والعطش والأوبئة وفقدان كل مقومات الحياة. إن موسيقى وغناء إلهام المدفعي وفرقته وأغاني وموسيقى رموز فنية أخرى هي الصورة المختلفة للعراق. هي الصورة الجميلة والصادقة لبلد أقدم الحضارات لا أحدث العصابات. إن المبدعين هم الضمانة، هم الموحدون للقلوب والأهداف، هم الآتي النقيّ، وبإبداعهم سيكنسون عصابات المحاصصات واللصوص والمرتزقة وخونة أهلهم.