عندما شعرت الشعوب العربية في لحظة تاريخية حاسمة أن الأنظمة القمعية التي تحكمها انما هي نمور من ورق سطوتها زائفة تمرّدت وثارت وفتح الشباب صدورهم للرصاص بل ان الكثير لا يصدق الى اليوم أن بن علي هرب وترك كرسي الحكم الذي جثم عليه أكثر من عقدين من الزمن. لكن مع مضيّ الوقت أصبح من الملحّ اعادة قراءة الأحداث من جديد وما آل اليه الربيع العربي والوقوف على ما يجمع الثورات وما يفرّقها..أين تلتقي وأين تختلف؟ وهل سينجو الربيع العربي الذي أعاد صناعة المصير العربي من أيدي أوروبا وأمريكا التي تتحدّث اليوم بلغة مغايرة تحمل تارة بعض اللين والمهادنة لهذه الشعوب التي ظلت تُضطهد لعقود من الزمن وتحمل تارة أخرى لغة الوعيد والتحذير واطلاق المخاوف والهواجس من سقوط الجماعات الاسلامية في صراع من نوع آخر مع معارضيها على السلطة؟
لم يكن الفاصل الزمنى كبيرا بين الثورات التونسية والمصرية والليبية وأيضا اليمنية، فقد انطلقت أولى شرارة العالم العربي من تونس يوم 17 ديسمبر 2010 حين أضرم المرحوم محمد البوعزيزي البائع المتجوّل الفقير في ولاية سيدي بوزيد النار في جسده ليكون ايذانا باندلاع ثورات عربية اجتاحت جزءا واسعا من العالم العربي وغيّرت مجرى التاريخ في هذه الدول التي حكمتها على مدى عقود طويلة من الزمن أنظمة سياسية استبدادية خنقت الحريات وضيّقت على المعارضين لها واختارت التعاطي معهم بالملاحقات والهرسلة الأمنية والزجّ بهم في السجون.
ومع اندلاع الثورتين التونسية والمصرية دخلت المنطقة العربية في حقبة تاريخية جديدة من شرقها الى غربها بثورات شعبية نجح بعضها في اقتلاع أنظمة حكمت عقودا طويلة بالحديد والنار وتكابد شعوب أخرى وتغالب بطش أنظمة تعتقد أنها قادرة على كسر ارادة شعوبها في الحرية والعيش الكريم، لتبدو وكأنها تولد من جديد، أو كأنما تفتح صفحة جديدة من تاريخها مختلفة تماما عما سبقها.
نهاية الأزمنة الصعبة
وهذه هي النسخة المستقرة، المفحوصة في 23 أغسطس 2012. 4 تغييرات معلقة تنتظر المراجعة.
انطلقت الثورة المصرية يوم الثلاثاء 25 فيفري 2011 (2011-01-25)قادتها جهات من المعارضة المصرية والمستقلين من بينهم حركة شباب 6 أفريل وحركة كفاية وكذلك مجموعات الشبان عبر موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وتويتر التي من أشهرها مجموعة «كلنا خالد سعيد» و«شبكة رصد» وشبان الاخوان المسلمين.
مع اندلاع الثورة التونسية بدا أن المنطقة العربية مقبلة على زلزال شديد لم يكن حتى أكبر مراكز الرصد والدراسات يتوقعه، ولم يمض وقت طويل حتى تحولت الثورة التي انطلقت من تونس الى كرة ثلج عملاقة جرفت وهددت عروشا مهيبة وفتحت أبوابا واسعة من الأمل لشعوب المنطقة.
جاءت الدعوة الى الثورة لها احتجاجًا على الأوضاع المعيشية والسياسية والاقتصادية السيئة وكذلك على ما اعتبر فسادًا في ظل حكم الرئيسين المطاح بهما بن علي ومبارك. وعلى نفس الشاكلة لكن مستفيدة هذه المرة من نجاح الثورتين انطلقت الثورة الليبية في فيفري 2011 بدعوات للتظاهر عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت مطالبين باسقاط نظام العقيد معمر القذافي.
وشيئا فشيئا ومع سقوط قتلى وجرحى تمكن الثوار الليبيون من بسط سيطرتهم على مناطق الشرق الليبي وبعض مناطق الغرب والوسط، وفي 17 مارس 2011 أصدر مجلس الأمن الدولي قرارا يَقضي بفرض عدة عقوبات على حكومة القذافي الليبية تتضمن حظر الطيران فوق ليبيا وتنظيم هجمات مُسلحة ضد قوات القذافي الجوية لمنعها من التحليق في الأجواء الليبية واعاقة حركتها، وأخيرا سقطت العاصمة طرابلس بين أيديهم ولا زال الثوار يبحثون عن أقارب القذافي الذين فر البعض منهم الى الجزائر.
وقد بدا القذافي أعنف وأقسى في التعاطي مع مطالب شعبه، مستخدما مختلف أنواع الأسلحة بما فيها سلاح الجو ضد مواطنيه العزل، واستمر القتال الى أن سقط القذافي في أيدي الثوار التابعين للمجلس الانتقالي في يوم 20 أكتوبر بقصف من طائرات حلف الشمال الأطلسي (الناتو) وقتل القذافي في نفس الواقعة برصاص الثوار الليبيون معلنا انتهاء الثورة.
قسوة الأمن في الأنظمة المستبدّة
عانى المواطن العربي في بلدان الربيع العربي الكثير من الظلم والانتهاك لحقوقه الانسانية وهو ما مثّل أحد أهم الأسباب الرئيسية غير المباشرة في هذه الثورة وذكر بأن العديد من أفراد الشرطة ضبطوا وهم يستخدمون العنف.
فقد حكم الرئيس المصري محمد حسني مبارك مصر منذ سنة 1981 وتعرضت حكومته لانتقادات في وسائل الاعلام ومنظمات غير حكومية محلية «نال بدعمه لاسرائيل دعما من الغرب، وبالتالي استمرار المساعدات السنوية الضخمة من الولاياتالمتحدة» واشتهرت حكومته بحملاتها على المتشددين الاسلاميين ونتيجة لذلك فقد صمتت الولاياتالمتحدة في ردودها الأولية على انتهاكات حسني مبارك وكان من النادر أن تذكر الصحافة الأمريكية في عناوين أخبارها الرئيسية ما يجري من حالات الاحتجاج الاجتماعي والسياسي في مصر والتدهور الاقتصادي والاجتماعي بالاضافة الى التراجع الملحوظ في مستوى التعليم والصحة وارتفاع معدلات البطالة وانتشار الجرائم في البلاد.
وحكم بن علي منذ 23 سنة البلاد بالحديد والنار وجعل من الشعب مجرد مستهلك لخطابات سياسية ممجوجة لا تسمن ولا تغني من جوع مليئة بالشعارات الفضفاضة ولا شيء كان يتحقق على أرض الواقع وجعل من الاعلام مجرد آلة دعاية سخيفة لانجازات النظام ومنع الحديث عن أخطبوط الفساد المستشري في كل القطاعات وتغوّل العائلة الحاكمة.
ويعتبر القذافي أقدم الحكام العرب على رأس نظام سياسي عشائري لم يترك لليبيين فرصة التعبير عن مواقفهم وآرائهم وحتى قرفهم من جنونه وسذاجته واستبداده بالسلطة وتجهيل شعبه واستغلال ثرواته ونهب ممتلكاته واغتيال الحريات الفردية والعامة.
اندلعت الثورة الشعبية في تونس في 18 ديسمبر عام 2010 (أي قبل 38 يومًا من اندلاع ثورة الغضب المصرية) احتجاجًا على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السيئة وتضامنًا مع محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه، واستطاعت هذه الثورة في أقل من شهر الاطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي الذي حكم البلاد لمدة 23 سنة بقبضةٍ حديدية.
هذا النجاح الذي حققته الثورة الشعبية التونسية أظهر أن قوة الشعب العربي تكمن في تظاهره وخروجه الى الشارع وأن الجيش هو قوة مساندة للشعب وليس أداة لدى النظام لقمع الشعب. كما أضاءت تلك الثورة الأمل لدى الشعب العربي بقدرته على تغيير الأنظمة الجاثمة عليه وتحقيق تطلعاته.
ظاهرة البوعزيزية في مصر
قبل أسبوع من بداية الأحداث؛ قام أربعة مواطنين مصريين يوم الثلاثاء 18 يناير عام 2011 باشعال النار في أنفسهم بشكل منفصل احتجاجًا على الأوضاع المعيشية والاقتصادية والسياسية السيئة وهم: محمد فاروق حسن وسيد علي وأحمد هاشم السيد ومحمد عاشور سرور وتوفي أحدهم في نفس اليوم متأثرًا بحروقه.
وقام مواطن مصري آخر قام باخاطة فمه واعتصم أمام نقابة الصحفيين مطالبا باسقاط وزير الصحة السابق حاتم الجبلي وذلك احتذاء بالمواطن التونسي محمد البوعزيزي الذي أشعل الانتفاضة التونسية باحراق نفسه.
وقد أطلق بعض علماء الاجتماع والكتاب الصحفيون اسم «ظاهرة البوعزيزية» على الحوادث المتكررة في الوطن العربي والتي يحرق فيها المحتجون أنفسهم تقليدًا لمحمد البوعزيزي احتجاجًا على البطالة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السيئة وقد شملت هذه الظاهرة عدة دول عربية.
على الرغم من أن ظاهرة البوعزيزية ظاهرة غريبة اجتماعيا ودينيا في الشرق الأوسط، الا أنها أدت الى اطلاق شرارة الثورات العربية واسقاط أنظمة يصفها معارضوها بالدكتاتورية في عدة دول عربية.
موت خالد محمد سعيد يشعل فتيل الثورة المصرية
كان المواطن المصري خالد محمد سعيد قد قُتل في الاسكندرية في جوان عام 2010 بعد أن جرى تعذيبه حتى الموت على أيدي اثنين من مخبري قسم شرطة سيدي جابر، ولم يتم البت في قضيته بعد أو اثبات الاتهام بالقتل عليهما حيث جاء تقرير التشريح الثاني موافقًا للأول بعدما أمر النائب العام المصري باعادة تشريح الجثة مما أثار احتجاجات واسعة دون أن يصدر الحكم في القضية التي أثارت جدلا كبيرًا وشكلت دورا تمهيديا هاما لاندلاع الثورة.
بعد حلول السنة الجديدة بعشرين دقيقة حدث انفجار أمام كنيسة القديسين في منطقة سيدى بشر أوقعت العملية 24 قتيلًا (بينهم مسلمين) كما أصيب 97 شخصًا. وتعتبر أول عملية تفجيرية بهذا المشهد المروع تحدث في تاريخ مصر.
قبل العملية بفترة قليلة قام تنظيم القاعدة باستهداف كنيسة في بغداد وهدد الكنائس في مصر وقبل التفجير بأسبوعين نشر على موقع له دعوة لتفجير الكنائس في مصر وعناوين أكثر من كنيسة والطرق والأساليب التي يمكن بها صناعة المتفجرات.
هذه العملية أحدثت صدمة في مصر وفى العالم كله واحتج كثير من المسيحيين في الشوارع وانضم بعض المسلمين للاحتجاجات وحدثت اشتباك بين الشرطة والمحتجين في الاسكندرية والقاهرة وهتف المحتجون بشعارات ضد حكم مبارك في مصر.
المواقع الاجتماعية مفتاح الثورة
لعبت تكنولوجا الاتصالات دورا هاما في الدعوة للثورة المصرية والتونسية والليبية أيضا وخصوصا الشبكة العنكبوتيه ويأتي دورها من خلال الموقع الاجتماعي فيس بوك الذي استغله النشطاء السياسيون في هذه البلدان للتواصل مع بعضهم البعض وطرح ونشر أفكارهم ومن ثم جاءت الدعوة الى مظاهرة حاشدة في تونس يوم 14 جانفي 2011 وكذلك الشأن في مصر يوم 25 يناير.
وكان لتحديد هذا اليوم تحديدا بالغ الأهمية في المعنى والرسالة فقد كانت الرسالة موجهة خصيصا لوزارة الداخلية والأسلوب القمعى الذي تتبعه فقد قام المواطن المصري وائل غنيم والناشط عبد الرحمن منصور بانشاء صفحة بعنوان «كلنا خالد سعيد» في الموقع الاجتماعي فيسبوك على شبكة الانترنت.
فالثورة عندما بدأت في تونس كما في مصر وليبيا كانت مكونة من الشباب الذين شاهدوا صور البوعزيزي وهو يحترق وقتل الآدميين والتخريب والعنف ويستمعون الى أزيز الرصاص وصوت البنادق والجثث الملقاة في الشوارع على شبكة ال«فايس بوك».
حلّ الأحزاب الحاكمة
كان من الطبيعي أن تؤول الأحزاب الحاكمة في عهد الأنظمة السياسية الفاسدة الى السقوط المدوّي أمام ارادة الشعوب الثائرة ولم يكن من الصعب حلّ هذه الأحزاب بعد انهيار الأنظمة السياسية ورؤوسها الفاسدة.
ولم تكن سابقة حلّ الأحزاب الحاكمة الفاسدة الأولى في تاريخ الثورات فقد تمّ حلّ الأحزاب الفاشية مثلا بعد قيام الثورات في اسبانيا وايطاليا مثلا وأدّت ثورات أخرى في أوروبا الى حلّ الأحزاب النازية الحاكمة.
وفتح الشعب التونسي بثورته الباب أمام الشعوب الأخرى الثائرة في مصر وليبيا للاطاحة نهائيا بالأحزاب الحاكمة من خلال رفع دعاوى قضائية لحلّها رغم أن الأمر في ليبيا كان مختلفا تماما فلم يكن هناك في ليبيا حزب بالمعنى التنظيمي الحزبي بل مجرّد لجان شعبية محلية على طريقة الأنظمة السياسية الاشتراكية.
وكانت قضية حلّ الحزب الحاكم التجمع الدستوري الديمقراطي حدثا فاصلا في تاريخ تونس أنهى أكثر من نصف قرن من الزمن الذي سيطر فيه هذا الحزب على الحياة السياسية في البلاد والهيمنة الكلية على كل مفاصل الدولة.
وقد كان الشأن ذاته في مصر التي عجّل شعبها بانجاز الخطوة الحاسمة للقضاء على آخر ما تبقّى من الاستبداد السياسي المظلم بأن تمّ رفع دعوى قضائية شبيهة الى حد كبير بقضية الحزب الحاكم في تونس، وكان صدور قرار المحكمة الادارية العليا يوم 16 أفريل 2011 بحل الحزب الوطني ومصادرة جميع أمواله ومقراته لصالح الدولة منعرجا حاسما في مسار الثورة المصرية.
الاعلام آخر ورقة تلعبها الأنظمة قبل سقوطها
تشابهت الثورات العربية كثيرا في اصرار الأنظمة العربية الاستبدادية المنهارة على استخدام كل الأوراق من أجل قمع التحركات وخنقها في المهد من خلال اللجوء المفرط للحلّ الأمني والاستعانة بالمأجورين من الحزب الحاكم أم من يسمّون بالبلطجية مثلما حدث يوم موقعة الجمل في مصر حين هاجم مأجورو الحزب الوطني المصري مظاهرة حاشدة معارضة للنظام بواسطة الجمال الهادرة.
وتلتقي الثورات الثلاث في ليبيا وتونس ومصر في استخدام الاعلام الرسمى المضلل من صحف واذاعات وقنوات تليفزيونية رسمية بخلق رأى مضاد للثورة ولكن في النهاية فشلت هذه الوسائل في قمع الثورة أو القضاء عليها.