أعتقد أنّ أوّل ما يجب للقارئ معرفته هو الإطار السياسي للمذبحة : هنا لابدّ من التذكير أنه لم يجد الكيان الصهيوني فرصة للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية ومحاولة تركيع الشعب الفلسطيني مثل تلك الفترة إذ أنه قبل أربع سنوات أي في سنة 1978 وقع تكبيل مصر بمعاهدة «كمب دافيد» التي أبرم فيها هذا البلد معاهدة صلح مع إسرائيل وبذلك وقع إخراجها نهائيا من الصراع العربي الإسرائيلي. زد على هذا أنّ السياسيين الإسرائيليين الّذين أبرم معهم الرئيس المصري أنور السادات المعاهدة وهم «بيقين» و«شامير» وغيرهم من اليمين المتطرّف هم الذين كانوا في سدّة الحكم في إسرائيل أيام المذبحة .
أمّا الحليف الأمريكي الداعم الأساسي لإسرائيل فكان على رأسه الرئيس «رونالد ريقن» RONALD REAGAN وهو الرئيس الّذي سمح للأسطول السادس أن يزوّد بالوقود الطائرات الإسرائلية التي قذفت حمام الشاطئ ببلادنا في غرة أكتوبر 1985 وهو معروف عنه أنه فكريا وعقائديا من أشدّ المؤمنين بالصهيونية المسيحية. فسنرى الدور الخطير الذي لعبته الولاياتالمتحدة آنذاك في أحداث صبرا وشتيلا.
هذا على الصعيد الدولي أمّا داخل لبنان فلابدّ من القول إنّ التجاذبات السياسية على خلفيات عقائدية وطائفية آحتدت تزامنا مع بروز الصراع الفلسطيني الصهيوني. هنا لا يسعني إلاّ أن أفتح قوسا أعتبره هامّا التذكير بأنّه عندما نوقش المشكل أمام الأممالمتحدة برز اِقتراحان : الاقتراح الأوّل يكمن في الإبقاء على دولة فلسطينية علمانية يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود.
أمّا الاقتراح الثاني فقد اشتمل على اقتطاع جزء هامّ من الأرض الفلسطينية تناهز نصفها لينشئ فيها الصهاينة دولة يهودية. دون استشارة أوّل المعنيين بالأمر وهم سكان فلسطين وفي غياب اللجوء إلى تحكيم رجال القانون الدولي فرضت الدول العظمى تحت ضغط اللوبيات الصهيونية المسيحية واليهودية اقتراح التقسيم ولقّبته ب «حل التقسيم»ورفضت الحلّ الأول الذي ساندته البلدان الإسلامية علما منها أنّه لا يتعارض مع الفكر الإسلامي واستدلت بالمثال اللبناني و التعايش السلمي فيه بين كافة الطوائف الدينية المكوّنة لنسيجه الاجتماعي.
منذ تلك الفترة أصبح استهداف استقرار لبنان من أوكد أولويّات دعاة وحماة الدولة اليهودية إلى يومنا هذا. إنّ ما أوجع وأحرق قلوب الكثيرين من قادة البلدان الغربية وجعلهم يستشيطون غضبا انسياق عديد المفكرين المسحيين في المنظومة الفكرية العربية وتلاقي آرائهم مع زملائهم من الفكرين المسلمين. نذكر على سبيل المثال «ميشال غفلق» أحد مؤسّسي حزب البعث ومن كبار منظريه و«انطوان سعادة» مؤسّس الحزب السوري الإجتماعي . لذا كان لابدّ للاستخبارات الغربية أن تشيع الفتنة داخل المجتمع اللبناني وتبثّ فيه الانقسامات الطائفية وتزرع في نسيجه الفرقة والكراهية. هذا ما حصل ولمّا تفاقمت الخلافات واحتدّت الأوضاع إلى أن وصلت البلاد في صائفة 1958 إلى أوّل حرب أهليّة، لم يتأخر الرئيس «كميل شمعون» آنذاك أن يستنجد بالقوات الأمريكية للسيطرة نهائيا على خصومه السياسيين من الأحزاب التقدمية الذين كان يترأسهم «كمال جنبلاط» و«صائب سلام» و«رشيد كرامي».
فكانت الهزيمة ل «شمعون» وحليفه «بيار جميل» Pierre Gemayel مؤسس حزب الكتائب وكلّ القوى الدّاعية إلى إخراج لبنان من محيطها الطبيعي وجرّها نحو الجاذبية الغربية. عندما عجزت القوات الأميركية طوال شهر جوان 1958 عن السيطرة على القوى التقدمية استقال إثرها «شمعون» من رئاسة الجمهورية وخلفه الجنرال فؤاد شهاب وهو مسيحي معتدل.
بقي التوافق في لبنان أمرا ظرفيا وغير متأكد إلى أن استقرّت في هذا البلد القيادات الفلسطينية في أوائل السبعينات بعد أن تعرّضت في الأردن إلى هجمة شرسة في سبتمبر 1969 الذي لقّب بأيلول الأسود. فكان الأمر سانحا بالنسبة للصهاينة وحلفائهم لإعادة إشعال فتيل الفتنة داخل لبنان واتهام الفلسطينيين بأنّهم سبب اندلاعها في حين أنّ «الموساد» عمد منذ 1972 إلى اِغتيال عديد المثقفين والمفكرين الفلسطنيين أمثال «أبو يوسف النجار» وزوجته و«كمال عدوان»وذلك بتواطإ عديد الجهات اليمينية اللبنانية. إثر هاته الموجة من التصفيات الجسدية التي كانت مباشرة أو عن طريق الطرود البريدية المفخخة» اندلعت منذ سنة 1975 حرب أهليّة. عكس ما يتصوّره البعض لم تكن حربا بين المسلمين والمسحيين والدّليل أنه ذهب ضحيّتها «توني فرنجية» ابن الرئيس «سليمان فرنجية».
فقد قتلوه وكافة أفراد عائلته لأنّ كافة أتباعه وأهل مدينة زغرطة وهم مسيحيون كانوا من أشدّ المناهضين ل «بيار جميل» وحزب الكتائب. سنتان بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية صعد إلى سدّة الحكم في إسرائيل ولأول مرّة اليمين المتطرّف بزعامة «ميناحين بيقن» Menahem Begin الابن الرّوحي لأب الصهيونية التنقيحية «جابو تنسكي» Jabotinsky . منذ توليها الحكم صبّت جماعة «بيقن» جهودها لاستقطاب عديد الأطراف اللبنانية اليمينية ففي تلك الفترة كوّنت إسرائيل جيش «سعد حدّاد» العميل لها والمتكون من ستة آلاف عنصر. وانتدبت عديد الشبان من حزب الكتائب أمثال «إيلي حبيكة» Elie Hobeika وكان عمره 24 سنة فكونته ودربته على كافة الوسائل الحربية العصرية وهو الذي أصبح المسؤول الأوّل عن مخابرات حزب الكتائب والدماغ المخطّط لمذبحة صبرا وشتيلا. كان أمل الحكومة الإسرائيلية تصفية المقاومة اللبنانية والفلسطينية بأقلّ الأثمان على أيدي اليمين اللبناني. يتبع بقلم: دكتور علي منجور