قبل عدّة أشهُر روى لي الأصدقاء في القاهرة كيف كانوا يتابعون الملحمة التونسيّة يومًا بيوم ولحظةً بلحظة إلى حين رحيل الطاغية يوم 14 جانفي، وكيف تفاعل مع الحدث الشاعرُ والكاتب وصاحب مجلّة الكتابة الأُخرى هشام قشطة، فاشترى تورتة وأوقد الشموع وأخذ يحتفل كما لم يحتفل من قبل. لحظتَها فهمتُ حماسة الرجل، كدتُ أقولُ هوَسَهُ، حين جاء إلى تونس ناسيًا أسرته وحياته الخاصّة، مُغامرًا كلّ المغامرة، معانقًا الساحة الثقافيّة التونسيّة عناق العشّاق الولهانين، ليعيش طيلة أسابيع من أجل إصدار عدد من مجلّته خاصّ بالثورة التونسيّة.. بعد إصداره عددًا خاصًّا بالثورة المصريّة.
وُلدت مجلّة الكتابة الأخرى في مخيّلة هشام قشطة منذ بداية التسعينات من القرن العشرين.. وفي وسعنا القول إنّه وُلد من جديد مع صدور أوّل عدد من مجلّته، التي أرادها مجلّة غير دوريّة، غير رسميّة، منحازة إلى المهمّشين، معبّرةً عن كلّ من يرفض الخضوع إلى الأمر الواقع..
وعلى الرغم من اعتماد المجلّة الكامل على إمكانيّات صاحبها وأصدقائه المحدودة، فقد واكبت أهمّ المنعطفات التي شهدتها البلاد العربيّة منذ التسعينات.. وكان من الطبيعيّ أن تواكب ما حدث منذ نهايات 2011.. سعيًا إلى القيام بما لم تقم به الأنظمة: هدم الجدران العازلة بين الساحات الثقافيّة العربيّة. هكذا جاء هشام إلى تونس مصحوبًا بالشاعر فتحي عبد الله في البداية ثمّ منفردًا بعد ذلك.. مصرًّا على استكمال المهمّة.. مهمّة اكتشاف بلاد أحبّها عن بعد ومن خلال أصدقاء معدودين ونصوص منشورة هنا وهناك.. ثمّ أحبّها أكثر حين عرفها عن كثب واكتشف تعدّد وجوهها وثراء تفاصيلها.
على امتداد أسابيع نسي الرجل حياته الخاصّة وتناسى التعب والمصاعب الماديّة والمعنويّة وعاش من أجل تحقيق غاية وحيدة: إصدار عدد من مجلّته يتضمّن أكثر ما يمكن أن تتضمّنه مجلّة تريد التعريف بثقافة بلد..
لم يأت على حساب أيّ جهة ولم يستعن في هذه المغامرة بأيّ طرف حرصًا منه على حريّته.. لذلك لم يكتفِ ببعض ما طلبه منّا من العناوين وأرقام الهاتف بل ارتمى في حضن المدينة لا يصادفُه نشاط ثقافيّ إلاّ حرص على حضوره ولا يُحدَّث عن تجربة فكريّة أو أدبيّة إلاّ سعى إلى الاطّلاع عليها. أتاح له ذلك أن لا يقع أسير نظرة معيّنة.. وسرعان ما اكتشف أنّ الساحة الثقافيّة أكثر كثافة من شارع الحبيب بورقيبة.. وأكثر ثراءً من العاصمة.. وأنّ في كلّ ولاية من ولايات الجمهوريّة التونسيّة شعراء وكتّابًا ومُبدعين يستحقّون كلّ تقدير.
حاول في البداية أن يذهب جنوبًا وشمالاً.. كما حاول أن يغطّي أهمّ التيّارات السياسيّة وطلب لقاء رموزها.. لكنّ الظروف الموضوعيّة اضطرّته إلى الاقتصار على جانبٍ من المشهد العامّ، في انتظار استكماله في طبعةٍ أخرى أو في جزء ثانٍ إذا أمكن للعدد الصادر أن يجد قرّاءه ويغطّي تكاليفه.
جاء هشام قشطة من جديد هذه الأيّام حاملاً معه العدد الخاصّ وقد صدر بعنوان: الإشارات التونسيّة.. معلنًا أنّه نجح في رفع التحدّي.. وله أن يفعل.. فقد أنجز ما يشبه الملحمة.. واستطاع إصدار العدد في حلّة فاخرة وفي قرابة الستمائة صفحة من المادّة الثريّة المتنوّعة التي لا يملكُ المطّلع عليها إلاّ أن يقرّ بثرائها وجمالها شكلاً ومضمونًا.
لا تدّعي المجلّة اختزال الثقافة التونسيّة في هذا العدد.. وليس في وسع أيّ مجلّة ادّعاء ذلك.. ولم يكن ذلك هدف صاحبها.. فقد جاء هشام قشطة إلى تونس ليكتشف هذه الثقافة بنفسه.. وليقدّم عنها صورة، مجرّد صورة، بعيدًا عن الكليشيهات والسكك الجاهزة والأفكار المسبقة..
وفي وسعه أن يطمئنّ إلى نجاحه في تحقيق هذا الهدف.. فقد تضمّن هذا العدد صورة من صُور أخرى ممكنة معبّرة عن هذه الثقافة في تنوّعها وتعدّد ممثّليها وتنوّع مشاربها.. وقدّم هذه الصورة في أفضل حلّة إلى القارئ العربيّ والقارئ التونسيّ على حدّ سواء.. بشكل غير مسبوق.
وكم أرجو أن ينتبه المُعجبون بهذا العمل إلى أنّه ليس صادرًا عن مؤسّسة أو عن مجموعة مؤسّسات مثلما قد يُخيّل إلى البعض، بل هو ثمرة جهد شخصيّ ونتيجة تضحيات فرد بحجم مؤسّسة.. ولا أرى من طريقة لردّ الجميل لهذا الجهد الكبير أفضل من اقتناء هذه المجلّة من طرف كلّ المؤسّسات والجهات المعنيّة بالثقافة التونسية وبصورة تونس بشكل عامّ.