قال صاحبي: فهم الناس ربط البيان بالسياسة، فالبيان في عالم السياسة لا يعني الفصاحة والوضوح فحسب، بل يعني كذلك النزاهة، والنأي عن استعمال الخطاب المزدوج، وقد تميز بهذا النوع من البيان قادة حركة التحرر الوطني، ومكنهم من اكتساب حب الجماهير، والقدرة على حشدهم في معركة التحرر والاستقلال، وما يزال بيان خطابهم الوطني يرن في الأذان حتى اليوم، ونجد في طليعتهم الزعماء الكبار : عبد العزيز الثعالبي، والحبيب بورقيبة، وفرحات حشاد. أعترف لك أن مفهوم التلبيس في السياسة قد التبس علي، فهل من توضيح ؟ قلت: إنه من الطبيعي أن يلتبس عليك فهويفيد الاختلاط، فالتلبيس كالتدليس والتخليط، ويقول العرب : تلبس فلان في الأمر أي اختلط، ومن هنا جاء ارتباطه بإبليس، إذ دوره الأساسي أن يلبّس المسائل على الناس حتى يستمروا تحت قيادته. ليس من الصدفة إذن أن تنفر الإيديولوجيات، والدعوات الدينية من الوضوح والبيان، وتتخفى وراء التلبيس، وتسعى جاهدة إلى تنشئة فئة من اللباسين ليزرعوا في أتباعهم بذرة الشك والاختلاط، والحاجة الملحة إلى الزعيم، أوالداعية، وقد عرف تاريخ الفكر الديني السياسي فئة اللباسين من عبد الله بن سبأ (ت عام 40 ه) حتى اليوم. قال صاحبي: أنت تعلم أنني أصبحت شغوفا بكتب التراث حتى أفهم أصول البدع والضلالات الجديدة التي تطل علينا برأسها من حين لآخر حاملة لواء الإسلام، والإسلام منها بريء براءة الذئب من دم يوسف، وسعيت بالخصوص للتعرف إلى أصول ما ينعت اليوم بالمذهب الوهابي فوقفت على كتاب لابن الجوزي (508-597) بعنوان «تلبيس إبليس» فقلت في نفسي إن قضية التلبيس عريقة في التراث العربي الإسلامي؟ قلت : كي لا نظلم أسلافنا فهم قصدوا إبليس الحقيقي الذي يتقي الإنسان شره بطرد الوساوس، أما إبليس اليوم فلا تنفع فيه تعاويذ الدنيا كلها فهواليوم متحصن بمكان محكم الغلق يضع الخطط لزرع الفتن، وإلهاء الشعوب الإسلامية عن قضاياها الحقيقية لتغرق في مستنقع الصراع المذهبي والطائفي، وما بعد العيان من بيان. المؤلم أن تنفذ هذه الخطط تحت غطاء إسلامي، ويتحمس لها المغفلون. قال صاحبي: هل من برهان على التلبيس في السياسة اليوم؟ قلت: يتحدث المواطنون اليوم، ومع قرب يوم الثالث والعشرين من هذا الشهر عن إعداد الدستور، وما سيحتويه من فصول ستصبح نصا مرجعيا للبلاد طيلة عقود من الزمن، ويستغربون من طول النقاش حول صياغة هذا الفصل أوذاك، بل حول مفاهيم معينة، ويدرك العارفون أن وراء صياغة هذه الجملة أوتلك سمر حتى غبش الفجر، وهنا تفوح روائح التلبيس، مكتفيا بذكر المثال التالي: ورد في التوطئة من الصيغة الأولى للدستور مفهوم «التدافع السياسي» عوض المنافسة السياسية النزيهة المعروفة في المجتمعات الديمقراطية، وهومفهوم قرآني جاء في آية من آيات القصص القرآني، وبعد حرب انتصر فيها أحد أنبياء، فالتدافع يفيد إذن استعمال القوة والعنف، فالدفع في العربية الإزالة بقوة، ويقول العرب: تدافع القوم، أي دفع بعضهم بعضا، ورجل دفاع شديد الدفع. ورد المفهوم القرآني في سياق تاريخي لا علاقة له بعالم اليوم، فما معنى إخراجه من ظرفيته التاريخية التي تعود إلى قرون طويلة قبل الإسلام، ومحاولة فرضه على الصراع السياسي في مطلع الألفية الثالثة ليتحول إلى صراع قوة وعنف. قال صاحبي : هل وراء ذلك خطة محبكة ؟ قلت : الله أعلم، اسأل رواد المحفل.