أصدرت المحكمة الإدارية بتاريخ 18 أكتوبر 2012 أربعة أحكام تقضي بتوقيف تنفيذ القرارات الأربع الّتي اتّخذها رئيس المجلس الوطني التّأسيسي بتاريخ 21 جويلية 2012 والّتي ضبط بمقتضاها منح أعضاء المجلس التّاسيسي ونائبي رئيسه. ولم يفلت من هذا الإجراء، إلى حدّ الآن، سوى القرار المتعلّق بضبط المنح المخوّلة لرئيس المجلس والصّادر عنه بتاريخ 15 أوت 2012. وبذلك، بداية من شهر نوفمبر، سوف لن يكون بإمكان رئيس المجلس الإذن بصرف المنح المضبوطة بالقرارات المطعون في شرعيتها.
ومن أهمّ المسائل الّتي تطرحها هذه القضية نجد مسألة السّلطة المؤهّلة لتحديد المنح النّيابية. يجب التّمييز هنا بين مستويين. يتعلّق الأوّل بالمقدار الجملي للمنح المسندة لأعضاء المجلس الوطني التّأسيسي. هذا المقدار تمّ تحديده بمقتضى قانون المالية التّكميلي المؤرّخ في 16 ماي 2012، علما وأنّ قانون المالية يتمّ إعداده من طرف الحكومة ثمّ يعرض على المجلس لمناقشته والمصادقة عليه.
ضبط قانون المالية المقدار المخصّص للتّأجير في خصوص المجلس كما هو الشّأن في خصوص رئاسة الجمهورية وفي خصوص الوزارات. بلغ هذا المقدار حوالي 19 مليون دينار. ثمّ جاء أمر 17 ماي 2012 وقام بتوزيع الاعتمادات بصفة مفصّلة. وقد نصّ هذا الأمر، في خصوص المجلس التّأسيسي، على أنّ المقدار المخصّص للسّلط العمومية (والمقصود أعضاء المجلس) يبلغ حوالي 13 مليون دينار. إلى هنا، لا نرى تدخّلا لرئيس المجلس التّاسيسي. ومن يعتبر أنّ المبلغ المرصود مشطّ، عليه أن يرجع باللّوم على قانون المالية وعلى الحكومة.
كلّ ما فعله رئيس المجلس، ونجد هنا المستوى الثّاني، هو أنّه اجتهد في توزيع مقدار 13 مليون دينار على الأعضاء. وأدّى ذلك إلى اتّخاذ القرارات المطعون فيها. وقد قام بهذا العمل على أساس ما خوّله له النّظام الدّاخلي للمجلس الّذي نصّ في فصله 121 على أنّه «يخصّص المجلس منحة شهرية لأعضائه.. يتمّ ضبطها بقرار من رئيس المجلس».
وما من شكّ في أنّ مسألة ضبط الأجور والمنح ليست من ميدان القانون، سواء بالرّجوع إلى دستور 1959 أو بالرّجوع إلى النّصّ النّافذ حاليا وهو القانون التّأسيسي المؤرّخ في 16 ديسمبر 2011 والمتعلّق بالتّنظيم المؤقّت للسّلط العمومية. فالأمر يتعلّق بمسألة إدارية راجعة بالنّظر للسّلطة الترتيبية، علما وأنّ السّلطة التّرتيبية هي اليوم مبدئيا من اختصاص رئيس الحكومة، وهو اختصاص لا يتمّ استبعاده إلاّ بمقتضى نصّ خاصّ.
ومهما يكن من أمر، فمسألة ضبط المنح الشّهرية تصبح، على ضوء ما تقدّم، مسألة ثانوية، على عكس ما قد يفهم من بعض التّدخّلات الّتي توحي بأنّ رئيس المجلس الوطني التّأسيسي وجد أمامه ميزانية الدّولة فأخذ يوزّع بسخاء. فقرارات رئيس المجلس لا تعدو أن تكون تطبيقية وليس لها انعكاس على المالية العمومية، باعتبار أنّ الأمر يتعلّق بمقدار مرصود مسبّقا كاعتماد دفع يتعيّن على رئيس المجلس صرفه. ويبدو أنّ المحكمة تفطّنت إلى هشاشة المطعن المتعلّق بالاختصاص فلم تذكره في حيثيات أحكامها.
لكن، حتّى إذا اعتبرنا جدلا أنّ رئيس المجلس مؤهّل لاتّخاذ القرارات محلّ النّقاش فليس بإمكانه أن يتّخذ من جديد قرارات أخرى لها نفس المحتوى، إذ أنّ حجّية أحكام توقيف التّنفيذ تحول دون ذلك. ويبقى الاختيار بين حلّين. يتمثّل الأوّل في إصدار قرارات جديدة مختلفة عن الّتي سبقتها من حيث الحرص على احترام الشّرعية. أمّا الحلّ الثّاني فيتمثّل في تبنّي المجلس لما جاء في القرارات المطعون فيها وإصدار قانون في هذا الشّأن، مع الإشارة إلى أنّ الصّبغة التّرتيبية لمسألة تحديد المنح لا تحول دون ذلك.
لقد قامت المحكمة الإدارية بما رأت أنّه يتعيّن عليها القيام به نصرة لدولة القانون. لكن قد تكون وجدت نفسها في حرج تجاه نوّاب الشّعب الّذين يريد البعض أن يقدّمهم كأشخاص يلهثون وراء الرّبح السّريع ودون التفات إلى ما يقومون به من أعمال مضنية. وربّما كانت المحكمة تفضّل تخصيص جهدها لرفع المظالم الحقيقية والمؤلمة الّتي تقدّم لها يوم بعد يوم.
كما أنّ الاهتمام المبالغ فيه بالمنح المخوّلة لأعضاء المجلس التّأسيسي من شأنه أن يجعلهم في حرج خاصّة وأنّ ما يتقاضونه لا يمثّل سوى % 0,05 من ميزانية الدّولة. زوبعة أخرى في فنجان آخر...