منذ إعلان وزارة العدل يوم 28 ماي الفارط عن قرارها بإعفاء 82 قاضيا من مهامهم، والشارع التونسي يعيش على وقع تجاذبات وجدالات قانونية خاصة بين أهل المهنة بين مؤيد ورافض لهذا القرار، وذهب البعض إلى حد اعتباره نتيجة طبيعية للحراك السياسي الدائر حاليا في البلاد ورغبة في تلميع صورة الحكومة المؤقتة، في حين رأى البعض الآخر أن هذا القرار قانوني وهو بداية لحملة واسعة لمقاومة منظومة الفساد التي تفشت في جميع الأوساط .لكن بعيدا عن هذا الرأي أو ذاك، يتحدث العديد من رجال القانون في مابينهم عن عديد الثغرات والتجاوزات والخروقات والتعليل الضعيف لهذا القرار الذي جعل القضاة من خلال جمعيتهم ونقابتهم،يتحركون ويدخلون في إضراب عام عن العمل ويدعون إلى الاستقلالية التامة للقضاء. ولمزيد التعرف على المؤاخذات المحمولة على وزارة العدل، التقينا بالأستاذ حكيم بوجناح المحامي بدائرة القضاء بسوسة والذي يتولى نيابة مجموعة من القضاة الذين شملهم قرار الإعفاء وقدم قضية لدى المحكمة الإدارية ضد وزير العدل لإبطال القرار وإلغائه. وقد كشف لنا عن عديد العيوب القانونية فيه من حيث الشكل ومن حيث الأصل قائلا: «مؤاخذاتنا عديدة على هذا القرار الذي طعنا فيه لدى المحكمة الإدارية . فمن حيث الشكل هذا القرار صادر عن سلطة غير مختصة حكميا حيث ان صدور قرار اعفاء القضاة من مهامهم عن جناب السيد وزير العدل يتعارض مع احكام القانون المنظم لسلك القضاة ع29دد والمؤرخ في 14 / 07 / 1967 وخاصة منها الفصل 10الذي ينص على أن تسمية القضاة تكون بأمر من رئيس الجمهورية بناء على ترشيح من المجلس الأعلى للقضاء، وكذلك الفصل 32 من نفس القانون المذكور .ثم إن مسالة فقدان القاضي لصفته تكون بصفة ارادية في صورة الاستقالة بشرط قبولها أو بصفة غير إرادية وذلك بالإعفاء او العزل وذلك طبقا لأحكام الفصل 44 من قانون ع29دد لسنة 1967 والمؤرخ في 14 / 07 /1967. وأفرد المشرع المجلس الاعلى للقضاء وحده باختصاص تأديب القضاة طبقا لأحكام الفصل 55 جديد من القانون ع64دد لسنة 2005 والمؤرخ في 12 / 08 / 2005. كما لم يسمح المشرع لغير المجلس الاعلى للقضاء بإمكانية تسليط أية عقوبة تأديبية مما يجعل قرار وزير العدل المطعون فيه غير شرعي لصدوره عن سلطة غير مختصة. ولا يمكن لوزير معين بأمر (أمر ع4796دد بتاريخ 29 / 12 / 2011) أن يعفي او يعزل قاضيا معينا بأمر، إضافة إلى أنه تم اعادة تنظيم السلطة القضائية بموجب القانون التأسيسي ع6دد لسنة 2011 والمؤرخ في 16 / 12 / 2011 والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية وخاصة الفصل 22 منه الذي يفهم منه أن المجلس الوطني التأسيسي أبقى على المجلس الأعلى للقضاء الحالي إلى حين حلول الهيئة الوقتية الجديدة محله مؤكدا في الوقت ذاته على مبدأ استقلالية السلطة القضائية في ممارسة صلاحياتها، مما يعني أن رئيس الجمهورية يبقى رئيس المجلس الأعلى للقضاء وليس السلطة التنفيذية في شخص وزير العدل. والقرار المطعون فيه لم يكن متخذا من قبل المجلس الأعلى للقضاء ولم يكن مصادقا عليه من قبل رئاسة الجمهورية، فهو إذن خارج نطاق المشروعية وعديم الأثر لكونه مشوبا بعيب جسيم من حيث عدم اختصاص السلطة التي اتخذته. وفي المقابل نص الفصل27 من نفس القانون التأسيسي المنظم للسلط العمومية على إنهاء العمل بالقوانين التي تتعارض مع هذا القانون بما يعني أن المسالة تطرح حول مدى تواصل العمل بالقانون ع29دد لسنة 1967 ومن يترأس السلطة القضائية؟ وهل يجوز للسلطة التنفيذية أن تحل محل السلطة القضائية أو المجلس الأعلى للقضاء لتأديب القضاة؟ وإذا اعتبرنا أن المجلس الأعلى للقضاء بوصفه السلطة الوحيدة التي لها حق تأديب القضاة، فإن هذا الأمر يدخل كذلك في صلاحيات السلطة القضائية وحدها وليس للسلطة التنفيذية أي سلطان عليها أو دخل فيها . لذلك وبناء على ما سبق شرحه فإن صدور القرار المطعون فيه عن جناب السيد وزير العدل فيه خرق للقانون التأسيسي عدد 06 لسنة 2011، ومخالفة صريحة لأحكام القانون ع29دد لسنة 1967 وذلك بسلب سلطات هيئة اخرى. ويظل هذا القرار القاضي بإعفاء السادة القضاة من مهامهم والتشطيب عليهم معيبا من الناحية الشكلية لصدوره عن سلطة غير مختصة....». وأضاف الأستاذ بوجناح :» هناك أيضا مسألة غياب تفويض الإمضاء حيث وبغض النظر عن مدى اختصاص وزير العدل باتخاذ القرار المطعون فيه بإعفاء القضاة من مهامهم من عدمه فإن إمضاء القرار المذكور من قبل رئيس الديوان نيابة عن وزير العدل فيه خرق صريح وواضح لعدم وجود تفويض بالإمضاء في الغرض وهو ما من شانه أن يعيب القرار المطعون فيه من الناحية الشكلية لمخالفته لصريح الفصل من الامرع384دد لسنة 1975 والمؤرخ في 17 / 06 / 1975. فمسالة تفويض الامضاء من المسائل الخطيرة في سلم النظام الاداري لما لذلك من تأثير مباشر على صحة القرار وعلى مشروعيته. كما يوجد في هذا القرار المطعون فيه خرق واضح ومخالفة جلية لمبدأ الشرعية، إذ لاجدال في أن أي قرار إداري يمس من المركز القانوني للأفراد ومن حقوقهم المكتسبة يجب أن يكون مؤسسا من الناحية القانونية وذلك بذكر النص القانوني والمستندات القانونية والواقعية المرتكز عليها والمعتمدة حتى يتسنى للمحكمة الإدارية مراقبة شرعية القرار. وإغفال هذا الركن الجوهري من شانه أن يعيب القرار المطعون فيه من الناحية الشكلية....». وواصل الأستاذ بوجناح حديثه عن الهنات الملحوظة في القرار المطعون فيه حيث قال: «هذا القرار لم يكن مؤشرا من قبل رئيس الحكومة تطبيقا لأحكام الفصل 17 فقرة 4 من القانون التأسيسي المنظم للسلط العمومية المذكور. واكتفى جناب السيد وزير العدل من خلال مدير ديوانه باتخاذ القرار المطعون فيه دون سبق التأشير عليه قبل تنفيذه.وأكثر من ذلك فإن القرار المطعون فيه قد تم تنفيذه قبل أن يقع اعلام المعنيين بالأمر بصفة شخصية مما يطرح مسالة قابلية القرارللتنفيذ طالما لم يكتس الصبغة التنفيذية التي تبدأ في السريان بعد استكمال القرارالإداري لكامل الإجراءات الإدارية الواجب اتباعها مسبقا. ثم إن النظام القانوني للقرارات الفردية يشترط ان يكون الاعلام بالقرار بطريقة شخصية حتى يتم تنفيذه، وهو ما لم يتم في قضية الحال مما يجعله عرضة للإلغاء لعدم احترام وزارة العدل للإجراءات القانونية المعمول بها...». هذا من ناحية الشكل أما من ناحية الأصل ،فيقول الأستاذ بوجناح: «لم يتم احترام حقوق الدفاع حيث ولئن كانت العقوبة التأديبية من الاختصاص المطلق للمجلس الأعلى للقضاء طبقا لأحكام الفصل 55 جديد من القانون عدد 64 لسنة 2005 والمؤرخ في 12 / 08 / 2005، فان وزارة العدل لم تحترم حق الدفاع قبل اتخاذ القرار المطعون فيه وذلك بعدم تمكين القضاة من الاطلاع على الملفات وفقا للإجراءات الواجب اتباعها أمام المجلس الأعلى للقضاء والدفاع عن أنفسهم. ولاجدال في ان حق الدفاع مضمون بموجب قانون ع112دد لسنة 1983 والمؤرخ في12 / 12 / 1983، لذلك كان القرار المطعون فيه اعتباطيا وغيرمعلل. ثم إن حق دفاع القضاة عن أنفسهم وهم محل تتبع تأديبي على درجة من الخطورة يستلزم استدعاءهم وتمكينهم من الاطلاع على ملفاتهم ومراعاة كل ضمانات التأديب العادل. وقد استقر فقه قضاء المحكمة الادارية على أنه متى كان قرارالادارة بمثابة العقاب فانه يستوجب مراعاة حقوق الدفاع وتوفر الضمانات القانونية لتجنب انحراف الإدارة بسلطتها.واحترام حقوق الدفاع هو مبدأ قانوني عام يتعين على الإدارة أخذه بعين الاعتبار والعمل به بتمكين المعنيين بالقرار التأديبي من الاطلاع على الأسباب الكامنة وراء القرار المتخذ في شأنهم، ومن الدفاع عن أنفسهم والرد على التهم المنسوبة اليهم وتقديم الحجج. وقد خرقت الادارة هذا المبدأ ضاربة عرض الحائط لأبسط حقوق الدفاع وذلك برفض تمكين القضاة من نسخة من ملفاتهم أو حتى الاستماع اليهم. ومن ناحية ثانية يعتبر هذا القرار المتخذ من السيد وزير العدل، انحرافا بالسلطة. فقد اكتفى القرار المطعون فيه بإعفاء القضاة من مهامهم دون سبب يذكر.وهذا الأمر يحيلنا في البداية إلى التطرق إلى مسالة قابلية اتخاذ قرار الإعفاء من عدمها. حيث لم يتطرق القانون ع29دد لسنة 1967 إلى إمكانية الإعفاء إلا وفق الفصل 44 من هذا القانون.هذا وقد فرق المشرع بين آلية الإعفاء وآلية العزل وما لذلك من تأثيرعلى النتائج القانونية المترتبة عن ذلك.فمن البديهي وأن القاضي يتمتع في اطار استقلالية القضاء بضمان عدم جواز عزله لأي سبب إلا وفق الإجراءات المذكورة أمام المجلس الأعلى للقضاء. ووقع القرار المطعون فيه في خلط بين تأديب القضاة الذي هو من الاختصاص المطلق لمجلس الاعلى للقضاء، وبين آلية الاعفاء التي أريد بها في حالة قصور القاضي عن اداء واجبه لتحل هذه الآلية في المنزلة بين الاستقالة الإرادية وبين العزل كعقوبة. وأراد جناب السيد وزير العدل تسليط عقاب على القضاة مستعملا آلية غير مناسبة وهي الإعفاء والدليل أنه تجنب تعليل القرار المطعون فيه حتى لايتمكن القضاة من تسليط رقابتهم عليه. ولا يفوتنا هنا التذكير بأن الفصل 22 من القانون المنظم للسلط العمومية قد أوجب في فقرته الأخيرة على وجوب اعتماد المعايير الدولية في استقلال القضاء. وهذا الامر يحيلنا على الوقوف على هذه المعايير ومدى احترام القرار المطعون فيه لها منها عدم قابلية القضاة للعزل وفقا للإعلان العالمي لاستقلال السلطة القضائية الصادر عن المؤتمر السابع لمنع الجريمة المنعقد في ميلانو بتاريخ 26 / 08 / 1985 والذي اقر في المادة 18منه على عدم جواز عزل القاضي أو المادة 9 من القانون الأساسي العالمي للقاضي المصادق عليه من الاتحاد العالمي للقضاة في دورته المنعقدة بتايوان في17 / 11 / 1999الذي اقتضى بشأن حماية الوظيفة القضائية «أن القاضي لا يمكن نقلته او إيقافه أو عزله من وظائفه إلا في الحالات المنصوص عليها بالقانون مع مراعاة الإجراءات التأديبية». ثم إذا ما سلمنا بأن مبدأ تفريق السلط من المبادئء الأساسية التي يقوم عليها أي نظام ديمقراطي فإن استقلالية السلطة القضائية مرتبط شديد الارتباط باحترام مبدآ التفريق بين السلط وبالتالي بعدم جواز عزل القاضي إلا وفقا لإجراءات جد خصوصية مع كل الضمانات الواجب احترامها كحق الدفاع والسلطة المنوط بعهدتها النظر في هاته المسائل. كما أن جناب السيد وزيرالعدل اعتمد على القانون الأساسي للقضاة لسنة 1967 والحال انه الغي مفعوله بغاية اعادته واصلاحه بمقتضى الفصل 27 من القانون التأسيسي. وأمام علوية القانون التأسيسي المنظم للسلط العمومية فان قانون 1967 المنظم لسلك القضاة أصبح ملغى بصفة ضمنية لتعارضه مع المبادئ الثورية التي جاء من أجلها وذلك بإعادة هيكلة المنظومة القضائية وفقا للمعايير الدولية. وبالتالي انبنى القرار على قانون ملغى وعديم الأثر مستغلا فترة الفراغ الحاصل للمجلس الأعلى للقضاء لينتصب مكانه وعوضا عنه مستحوذا على سلطات السلطة القضائية بصفة عامّة». هذه هي إذن أهم المؤاخذات القانونية على قرار السيد وزير العدل بتاريخ 28 ماي 2012 والقاضي بإعفاء بعض القضاة من مهامهم ،حسب ما ورد على لسان الأستاذ بوجناح، والأكيد أن هذا الموضوع لم ينته بعد وقد يشهد تطورات في قادم الأيام قد تؤدي إما إلى إلغاء القرار أو تثبيته بالكشف عن الملفات المتكتم عليها والتي تقول وزارة العدل أنها تملكها وإنهاء الغموض والجدل القائمين حاليا.