وقد مرّت زوبعة 23 أكتوبر وانقشعت سحابتها على استمراريّة المشهد السياسي بنفس اللاعبين وبنفس المواقع أيضا، فأحزاب الترويكا بقيت في السلطة والمعارضة بقيت «تُعارض» ، ما المطروح الآن إذن ؟. من المؤكّد هناك أشياء يجب أن تتغيّر لكي لا تجد البلاد نفسها مرّة أخرى في نفس المطبّات ونفس المزالق التي لازمتها على امتداد السنة الحالية والتي انطبعت بحالة من القطيعة والصدام بين من هم في السلطة ومن هم في المعارضة ، هناك أدوار ووظائف ومهمّات يجب أن تتغيّر وهناك أيضا خطاب يجب أن يتبدّل وممارسة يجب أن تذهب رأسا إلى الفعل الإيجابي والبنّاء بعيدا عن منطق التخوين والتآمر ورفض الآخر.
اللحظة بتشعباتها وتعقيداتها ورهاناتها الصعبة خاصة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي والوضع الأمني، هي لحظة وطنيّة بامتياز يجب أن يتعالى فيها كلّ اللاعبين السياسيين عن صراعاتهم الحزبيّة وتجاذباتهم الضيّقة وحساباتهم الانتخابيّة لفائدة إنقاذ الوضع والسير خطوة عمليّة في مسار الانتقال الديمقراطي الّذي يقتضي اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى وفاقا وطنيّا شاملا تنخرطُ فيه الأحزاب والجمعيات والمنظمات الوطنيّة والنخب والشخصيات ذات التجربة والقدرة على التأثير، هي لحظة يجب على المشتغلين في السياسة أن يلتقطوها كأفضل ما يكون من أجل تصويب أخطاء الماضي والانكباب الجماعي على القضايا والمشاغل الوطنيّة ذات الأولويّة حتّى لا ينهار المركب بمن فيه لا قدّر الله.
برغم ما رافق موعد 23 أكتوبر الفارط من هواجس ومخاوف فإنّ العديد من المؤشرات حينها قد فرضت نفسها في اتجاه تأكيد قدرة مختلف الفرقاء على تجاوز خلافاتهم وفتح قنوات للحوار والتواصل والمساهمة في توضيح خارطة طريق لإنهاء مرحلة الحكم المؤقت وتأسيس الحكم الدائم والمستقر من ذلك إقدام تنسيقية الترويكا على إصدار بيان 13 أكتوبر واجتماع المؤتمر الوطني للحوار يوم 16 أكتوبر تحت رعاية الاتحاد العام التونسي للشغل ، والبيان والاجتماع شكّلا منعرجا مهمّا وضع القاطرة على بداية سكّتها الصحيحة.
ربّما من الوجيه اليوم أن يتمّ السير على نفس ذلك النهج خفضا لحالة التوتّر والاحتقان وتقريبا لوجهات النظر، لكن أسئلة عديدة تُطرح حول الكيفيّة والصيغة الّتي يُمكن عبرها وبواسطتها استئناف ذلك المسار الوطني الّذي تلتقي فيه كلّ الإرادات بحثا عن المزيد من التوافق وترسيخا لثقافة الإيمان بالآخر المخالف ولروح التشارك والعمل الجماعي. وعلّه من الوجيه وقد اجتازت البلاد معارك الشرعيات الواقعية منها والموهومة والمفتعلة أيضا، لم يبق أمام السياسيين اليوم غير شرعيّة الأداء والقدرة على دفع الأوضاع نحو الأحسن.
هناك شبه اتفاق بين متابعي الحياة السياسيّة الوطنيّة بأنّ طرفي المعادلة أي السلطة والمعارضة لم يتمكّنا من تنفيذ أداء جيّد خلال المرحلة الفارطة فكلاهما قد راكم كما من الأخطاء خاصة في سوء تقدير متطلبات الواقع السياسي وعدم التعاطي الإيجابي مع تطوراته الّتي كانت ولا تزال متسارعة.
اليوم ، لم يعد مسموحا للطرفين بالخطإ وخاصة ذلك الّذي يستحضر أو يحاول استعادة تجارب سابقة والأهمّ أن السلطة والمعارضة مدعوتان لتصويب ما وقعا فيه من أخطاء . الشرعيّة اليوم بعد كلّ تلك المطبّات والمنزلاقات هي شرعيّة الأداء ، أي كيف يكون الأداء صائبا وبنّاء لا يجترّ التجاذب والعداء الإيديولوجي المقيت ولا يكرّر مساعي البحث عن الحملات الدعائيّة تجاه هذا الخصم أو ذاك.
فهل تُحسن «السلطة» إدارة الحكم وتتجاوز أخطاءها في الخطط والبرامج والأولويات والأسماء أيضا؟.
وهل تقدر المعارضة على لعب دورها البنّاء بعيدا عن تصيّد العثرات ودون التوظيف السياسي للأحداث الاجتماعيّة وغيرها؟.
شرعية الأداء الجيّد ليس فقط للإحساس بالمشاغل الحقيقيّة للبلاد ولكن أيضا لكي يُنقذ الطرفان نفسيهما من خيبة الهزيمة والانكسار.