لا يمكن أن نفهم حالة الاستقطاب بين النهضة ونداء تونس إلا بفهم طبيعة الخلاف السياسي بينهما. فالخلاف في الأصل يترجم الى حالة من الاستقطاب بين حركة عقائدية تمسك بزمام الحكم وتأمل في احتكار المشهد السياسي وقد هرأتها هذه التجربة وكشفت عن خيباتها ومخططاتها وهي حركة النهضة، وحركة سياسية صاعدة تجمع في لقاء تاريخي بين أعداء الأمس من اليسار النقابي والمستقلين والدستوريين القدامى. حقيقة الخلاف أن النهضة تحاول المحافظة على نفوذها الآخذ في التراجع على المستوى الشعبي بأي ثمن، مقابل حركة فتية أحدثت رجة في الساحة السياسية وما فتئت تتوسع و«تلتهم» وتستقطب الأنصار والقواعد من جميع الأطياف السياسية والشعبية.
والمشكل أن كلا الحركتين ترى في الأخرى تهديدا وجوديا (وخاصة النهضة)وأن المعركة معركة حياة أو موت وهذا لا يستقيم في المنطق السياسي السليم. هذا الرأي انعكس استقطابا ثنائيا حادا وأدوات صراع حربية. الصراع في ظاهره هو صراع على هوية تونس ومدنيتها ونموذجها الاجتماعي والثقافي (وهذا صحيح إلى حد بعيد) لكن أدواته لا توحي بذلك فما هو في النهاية إلا صراع على السلطة.
فحالة التحشيد والتجييش الاجتماعي والتعبئة الغريزية للأنصار وخطابات الكراهية والرفض للآخر ليست إلا أدوات للوصول إلى السلطة . فمخاطر هذه الوسائل التي تخاطب غرائز الناس وأوجاعهم وجهلهم ومخاوفهم لتعزيز الاصطفاف السياسي يمكن أن تعصف بالوحدة الاجتماعية والوطنية والأمن النفسي والاجتماعي للمواطنين. كما يمكن أن تهدم أسس الشرعية والدولة وخاصة عندما يتحول المجلس التأسيسي ومؤسسة الأمن ومرفق القضاء إلى مجرد أدوات في صراع لكسر العظم.
لو تواصلت هذه السياسة والمنهجية السياسية فهي لا يمكن أن تخدم لا المجتمع ولا الوطن ولا حركة نداء تونس، لأن لعبة التفرقة تجيدها حركة النهضة أكثر من غيرها لأنها جزء من عقيدتها ولأن العنف السياسي جزء من أدائها وأدبياتها السياسية تصنفه تحت عنوان «التدافع الاجتماعي» الذي لا يعني في النهاية سوى التقاتل الاجتماعي بين مكونات المجتمع الواحد. وكأن بحركة نداء تونس التي تنادي بالطابع المدني والجمهوري للدولة والنمط الاجتماعي الحداثي قد جرت على ملعب النهضة وسقطت في فخاخها القائمة على التفرقة والاستقطاب.
وإذا لم يفهم نداء تونس ونخبه هذه الورطة ومخاطرها وأبعادها ونتائجها الكارثية فانه سيساهم بقصد أو بدونه في زعزعة الأمن الاجتماعي والوحدة الوطنية وتهرئة مؤسسات الدولة وهذا ما لا يخدم التونسيين ولا ثورتهم ولا نداء تونس والطبقة السياسية ولا الانتقال الديمقراطي عموما في شيء.
ان العنف كرقصة الطانقو لا يمكن أن يقام إلا بطرفين. فإذا لم يكن نداء تونس طرفا في هذه الرقصة ويستمع إلى أصوات العقلاء والعارفين فلن تجد النهضة من تسلط عليه عنفها اللفظي والسياسي والأمني إلا المجتمع وليس حزبا بعينه وبالتالي تصبح مكشوفة لدى الجميع ولن تجد بماذا تبرر عدوانيتها، وعندها سيقول المجتمع كلمته الحقيقية والنهائية وبالتالي على حركة نداء تونس أن تتحرك كجزء من المجتمع وليس كخصم سياسي لطرف معين وهي القادرة على مراجعة نفسها أما الطرف الآخر فهو منسجم مع عقيدته وأطروحاته ومستعد للدفاع عنها حتى ولو كان الثمن حربا أهلية يخسر فيها الجميع على غرار ما حدث في الجزائر.