تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباحث توفيق المديني يكتب ل «الشروق» : في الاستقطاب الثنائي وسبل بناءالجبهة الديمقراطية في تونس
نشر في الشروق يوم 01 - 10 - 2012

الثورة التونسية التي أطاحت بحكم بن علي البوليسي لم تكن مُؤطرة من قبل الأحزاب والحركات الأيديولوجية المعروفة، بل إن قوى اجتماعية جديدة كلّ الجدّة على الجميع وهذا ما يُفسر الطابع «الفجائي» للثورة، إذ إن أحدا لم يكن يُعِدُّ نفسه لها، لا صانعوها ولا السلطة التي أسقطتها الثورة هي التي لعبت فيها دور المحرك الرئيسي في قيادةالغضب الشعبي هذا، الذي انفجر بشكل عفوي رافعا مجموعة من الشعارات تتجاوز حل معضلة بطالة الشباب لتشمل مطالب بالحد من الفساد، وحرية الرأي والتعبير، والحد من الفوارق الجهوية.

لم تكن الثورة التونسية هذه، ثورة إسلامية، لأن شباب الثورة لم يستعينوا بالإسلام كما فعل أسلافهم في الجزائر في أواخر الثمانينات، ويعبّرون قبل كل شيء عن رفض الديكتاتورية البوليسية الفاسدة ويرفعون مطلب الحرية والديموقراطية. لا يعني هذا بالتأكيد أن كل الذين قاموا بالثورة هم علمانيون، بل يعني ببساطة أنهم لا يرون في الإسلام أيديولوجيا سياسية قادرة على خلق نظام أفضل: إنهم في مساحة سياسية علمانية. وما ينطبق على الأيديولوجيا الإسلامية، ينطبق أيضا على الأيديولوجيات الأخرى، فالثورة التونسية لم تكن ثورة يسارية، ولا أيضا ثورة قومية، رغم أن شباب الثورة هم قوميون (يظهر ذلك من خلال الأعلام الوطنية التي يلوّحون بها) لكنهم لا ينادون بالقومية العربية التي اختفت من الشعارات.

وشكلت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تونس انتصارا كبيرا للشعب التونسي ولثورته، وللديموقراطية العربية عموما. فقد حصلت هذه الانتخابات من ضمن مرحلة انتقالية وضعت حدّا فاصلا بين مرحلة ما قبل الثورة ومرحلة الثورة التي تؤسس للجمهورية التونسية الثانية. هذا هو معنى انتخاب مجلس وطني تأسيسي يصوغ الدستور والقوانين الانتخابية، وفي مقدمها قانون انتخاب جديد.
ويؤكد احتلال الأحزاب الوسطية التونسية صدارة تشكيلة المجلس التأسيسي على رسوخ الذهنية الوسطية التي يتعامل بها التونسيون مع الأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها الفكرية. ولعل الوعي بمدى رسوخ هذه الذهنية في المجتمع التونسي هو الذي حمل حركة النهضة الإسلامية على تشكيل حكومة ائتلاف وطني مع حزب المؤتمر، وحزب التكتل.
هل تشكل «الجبهة الشعبية» البديل الثالث في تونس؟

يشهد المجتمع التونسي منذ نجاح انتخابات المجلس الوطني التاسيسي في 23 أكتوبر 2011، وتمكن حركة النهضة من ضمان أكثرية مريحة في المجلس الوطني التأسيسي، حين أقامت ائتلافا ثلاثيا حاكما مع حزبي «المؤتمر الوطني» ذي التوجهات العلمانية الوسطية، و«التكتل الديموقراطي» الأقرب نظريا إلى يسارالوسط، إضافة إلى سيطرتها على السلطة فيها، حكومة ورئاسة ومجلسا، سواء مباشرة أو بالتحالف، «حرب»السياسة والمجتمع، القائمة حالياحول صياغة الدستور الجديد، والهوية، وهي ليست كما يستسهل البعض توصيفها دوغمائيا، على أنها بين التيارات العلمانية والليبرالية والتيارات الإسلامية، بمن فيها الذي صعد إلى السلطة حديثا، بل تبدو «المعركة» أكثر راديكالية بين «من هم مع النهضة الإسلامية ومن هم ضدها»، على حدّ تعبير أحد أساتذة الإعلام الجامعيين الناشطين سياسيا في تونس، في إشارة إلى فئة من التونسيين الذين يعترفون بإسلامهم من جهة وبديموقراطيتهم من جهة أخرى، منتقدين على السواء، اليسار التونسي لتقصيره في كثير من المحطات السياسية، و«النهضة» التي «خطفت الثورة» بخطابها الديني.

في ظل هذا المشهد السياسي شكل رئيس الوزراء التونسي السابق الباجي قائد السبسي حزب «نداء تونس»، الذي يضم في صفوفه أعضاء سابقين في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، المنحل بقرار قضائي، والذي استطاع في فترة وجيزة أن يستقطب عشرات الألاف من المنخرطين الجدد المستائين من حكم الترويكا، تكرس في المشهد السياسي التونسي استقطابا ثنائيا حادا.

ومنذ حينئذ، أصبح الوضع السياسي في تونس مستقطبا في ظل نظام ذي قطبين، بوجود هذه الثنائية : السلطة وحزب النهضة الحاكم الذي أصبح اكثر قوة، وسيطرة في الوقت عينه على مجمل المؤسسات الحكومية من جهة، وحزب نداء تونس من جهة أخرى. وبقيت المعركة محدودة بين هذين الخصمين، الأول يساند الحكومة في مجمل خياراتها بإطلاقية، والثاني يخوض معركة استعادة السلطة، وبالتالي معركة التناوب عليها.

رغم التناقض الظاهر في العديد من القضايا، بين حركة النهضة وحزب»نداء تونس» الذي يقوده الباجي قائد السبسي، وهو الحزب السياسي الناشىء، الذي بات يشكل تهديدا سياسيا وانتخابيا لحركة النهضة، فإنه ليس خافيا على أحد أن هناك نقاطا مشتركة تجمع بين «معتدلي «حركة النهضة ومعتدلي حزب «نداء تونس»، ومنها، الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية للبلاد، والتوجه الاقتصادي الليبرالي الذي يرهن المجتمع التونسي في نهج التبعية للقوى الرأسمالية الغربية، والسياسة الاجتماعية العادلة، وقيم الجمهورية، وحرية التعبير والرأي.

في ظل هذا الوضع الجديد، وازدياد التشابكات والمعارك السياسية والنقابية والأيديولوجية بين «الترويكا»الحاكمة والمجتمع المدني التونسي بمعناه الشامل للحركة النقابية والنشاط القضائي وبعض كيانات المعارضة السياسية الفاعلة مدنيا، شهدت الساحة السياسية الوطنية مؤخرا ولادة ائتلاف يساري وقومي جديد تحت اسم «الجبهة الشعبية» التي تضم رسميا اثني عشرة حزبا مع وجود حركة الديمقراطيين الاشتراكيين (جناح أحمد الخصخوصي) المطروح أن ينضم الى هذه الجبهة لتصبح متكونة من ثلاثة عشر حزبا. وهذه المكونات للجبهة، هي أساسا حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وحزب العمال التونسي، وحزب الطليعة العربي الديمقراطي، وحركة البعث، ورابطة اليسار العمالي، وحزب تونس الخضراء ، والجبهة الشعبية الوحدوية، والوطنيون الديمقراطيون (الوطد) والحزب الشعبي للحرية والتقدم ، وحزب النضال التقدمي، وهي جبهة مفتوحة يتم الالتحاق بها لمن يلتقي مع مكونات الجبهة.

وقد أعلن «حزب العمال التونسي» اليساري في بيان إن الجبهة الجديدة تريد أن تكون «بديلا عن الاستقطاب المغشوش بين الائتلاف الحاكم والفصائل الليبرالية التي تدعي بحكم تواجدها خارج السلطة أنها تمثل بديلا عن حكومة الترويكا».ولخص أهداف الجبهة في «تحقيق أهداف الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية في شكلها الشعبي وليست الديموقراطية الليبرالية التي لا تخدم، كما كانت دوما، غير البورجوازية ورجال الأعمال والمتنفذين مالا وجاها... وتحقيق المساواة والعدالة الثورية في كل مستوياتها سواء بين المرأة والرجل أو بين الفئات الشعبية وبين الجهات».

و تتفق مختلف حساسيات ومكونات المجتمع المدني في تونس، أنه من خلال بروز خلافات عميقة على أعلى المستويات حول قضية تسليم رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي مثلا، أو في تحذيرات الرئيس المنصف المرزوقي من «ثورة ثانية»، إضافة إلى التشققات العديدة التي شهدها حزبا «المؤتمر» و«التكتل» والخلافات الواضحة داخل الترويكا حول القوانين الدستورية ذات الأهمية الكبرى.
فقد ازدادت الانتقادات لحركة النهضة الحاكم بسبب التراجع في حرية التعبير، تحت شعار رفض المس بالمقدسات، وتجريمه في نص الدستور الجديد باقتراح من حركة النهضة، الأمر الذي اعتبرته الأحزاب العلمانية واليسارية والقومية بأنه يشكل انتكاسة وتراجعا كبيرا في حرية التعبير، ويؤسس لإرساء رقابة شديدة باسم الدين، ويمثل في الوقت عينه تحولا في خطاب حركة النهضة، حيث كان قبل الانتخابات تتبنى «خطابا مدنيا لإرساء دولة حديثة»، لكنها بعد ذلك تحولت إلى «موقع أكثر ارتباطا بالدين واحتكاره سياسيا».

ولم يقتصر الصراع بين حركة النهضة ومكونات المجتمع المدني الحديث على حرية التعبير، بل شمل الصراع أيضا ملف «استقلالية القضاء» في جلسة الثاني من أوت الماضي في المجلس التأسيسي التونسي، إذ اقترحت لجنة التشريع العام، التصويت لإرساء هيئة جديدة عليا للقضاء. لكن ممثلي الشعب التونسي انقسموا إلى فئتين: الأولى متمثلة بحزب «النهضة» ترفض إدراج كلمة «مستقلة» في صفات الهيئة، فيما الثانية تصر على الاستقلالية بكل معنى الكلمة للهيئة.

وتعمقت الخلافات بين حركة النهضة ومكونات المجتمع المدني الحديث حول طبيعة الدولة التي يجب بناؤها في مرحلة ما بعد الثورة، هل هي دولة مدنية ديمقراطية تعددية، أم دولة دينية، لا سيما في ظل رفض حركة النهضة الانتقادات الموجهة إليها، متكئة في ذلك على الشرعية الانتخابية في صناديق الاقتراع التي حظيت بها، والتي منحت حكمها « شرعية ثورية »تقوّض مناورات المعارضة الديمقراطية، التي تركز هي الأخرى على الدور الهامشي للإسلاميين في الحراك الثوري نفسه، والتقليل من أهمية خلاصات الصناديق الانتقالية.

ويجمع المحللون الملمون بالشأن السياسي التونسي أن «الجبهة الشعبية»، تريد أن تكون خيارا انتخابيا ثالثا في تونس التي تشهد حاليا استقطابا كبيرا بين الإسلاميين ممثلين في «حزب النهضة»وحزب «نداء تونس»، لا سيما أن هناك عوامل عديدة تدفع بقوى اليسار لتوحيد صفوفها، في ضوء الهزيمة التي منيت بها الأحزاب اليسارية والقومية في الانتخابات الماضية، والتي جعلت العديد من قواعدهذه الأحزاب تدفع نحو رص الصفوف لمواجهة ما تواجهه الساحة.إضافة إلى حجم التحديات الذي يبرز مع صياغة الدستور بما يهدد طبيعة المجتمع التونسي، و ضغط الشارع الشعبي من أجل أن تتجاوز الأحزاب اليسارية والقومية انقساماتها غير المبررة، وغير المجدية، والتي اسهمت في تشويهها، وفي عزلها عن الحراك السياسي القائم في تونس.

غير أن «الجبهة الشعبية» ينتظرها عمل كبير، لجهة توحيد أكثر ما يمكن من الرؤى بين أطرافها اليسارية والقومية، إضافة إلى تعميق فكرة العمل الجبهوي واللقاء السياسي، ثمّ بلورة رؤاها وبرامجها البديلة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوجيه رسائل واضحة للمجتمع التونسي، وتقديم خطاب يطمئن القوى الداخلية صاحبة المصلحة في الثورة.فهذا العمل وحده هو الذي يفسح في المجال لتشكيل تكتل إنتخابي يبرزقوّة هذا التيارالثالث ويعطيه أيضا فرص النجاح في الانتخابات القادمة.

في نقد مفهوم «الجبهة الشعبية»

يحيل استخدام مصطلح «الجبهة الشعبية»، إلى أن اليسار التونسي (حركة الوطنيين الديمقراطيين في شتّى تنظيماتها ومدارسها، وحزب العمال التونسي) اختار ثورة أكتوبر البلشفيّة في 1917 كأهمّ لحظاته التأسيسيّة. فأمام الثورة الروسيّة يتساوى الشيوعيّ «الرسميّ» واليساريّ «الجديد» والتروتسكيّ والماويّ تسليما بتلك المرجعيّة.وهذا ما يؤكد لنا أن مختلف التنظيمات والأحزاب اليسارية في تونس لا تزال تسيطر عليها الأيوديولوجيا الستالينية التي ترفعها إلى مرتبة المقدّس، الأمر الذي يجعل هذا اليسار يتحمّل جزءا من المسؤوليّة في تعثّر علاقته مع عصرنا الراهن عصر ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر السوفياتي- ومسائله، لا سيّما منها موضوعات الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، ويرفض على نحو متّصل،القيام بالمراجعة النقدية الصارمة لذاك «السلف الصالح» الذي أنشأ الغولاغ وعطّل إنتاج السياسة في صلب المجتمع، وقمع حرية التعبير، وأنشأ إحدى أهمّ التوتاليتاريّات المعاصرة وأشرسها.
ودأبت الإيديولوجية السائدة في الغرب على نقد ووصف النظام الشيوعي الذي كان سائدا في روسيا ودول أوروبا الشرقية بالنظام التوتاليتاري. وقد كان لمفهوم التوتاليتارية، الذي يعرف بالشمولية، دور كبير في إسقاط التجربة التاريخية للشيوعية. ومن أهم خصائص هذه التوتاليتارية، تميزها بعدد من الثوابت والعلامات الفارقة : الحزب الشمولي الواحد، الدور المركزي للايديولوجيا، إلغاء الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، تقديم دولة السلطة على سلطة الدولة، تضخم أجهزة القمع والإرهاب وافتراسها المجتمع، نفي مشروعية الصراعات الداخلية وتقديس مبدإ الانصهارية.

فلماذا يختار اليسار التونسي الراهن موروث الحرب الباردة لحظته التأسيسيّة لما يسمى ب»الجبهة الشعبية «، لا سيما أنّ المقولات الايديولوجية والسياسية التي ارتبطت بالاشتراكية العلمية، والاتحاد السوفياتي، وأطروحات الثورات الوطنية الديمقراطية في العالم الثالث، خلال زمن الحرب الباردة، صارت خبرا للتاريخ؟

أما الليبرالية الجديدة، فقد جاءت بمنهاج جديد لإدارة الرأسمالية في زمن العولمة. وقد كشفت عن عدد من الحقائق أهمها :

1 تتسم العولمة الرأسمالية المتوحشة الحالية باستقطاب الرساميل والتدفقات الاستثمارية، وبالتالي بتركيز الثروة والرأسمال في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة، خاصة في الولايات المتحدة.
2 يزداد إفقار العالم الثالث وتهميشه وتتخذ عمليات نهبه السافرة والمقنعة طابعا همجيا.
3 تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورا رئيسا في صياغة هياكل القوة الاقتصادية من خلال قوتها السياسية والعسكرية.

فالسلطة السياسية في زمن العولمة، أو التوتاليتارية الليبرالية الجديدة تحولت إلى مجرد خادم أو مجرد نادل في مقهى الأسواق المالية التي آلت إليها السيادة الفعلية على العالم، لأن الحاكم الفعلي في عالم اليوم، هو الرأسمال المالي، وتوتاليتارية الأسواق، وتوتاليتارية تقنيات الاعلام الجماهيري. ومنذ نهاية الحرب الباردة في تشرين الثاني /نوفمبر 1989 التي توافقت مع انهيار جدار برلين، وبعد انتهاء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في كانون الأول / ديسمبر 1991 التي توافقت مع زوال الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية، بلغت الولايات المتحدة الأمريكية قمما في السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية لطالما كانت غير قابلة للتخيل، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تطمح وحدها إلى تحديد قواعد الحياة الدولية من خلال تبوئها مركز قيادة النظام الدولي الجديد أحادي القطبية.

إن التمسك بمصطلح»الجبهة الشعبية «الذي يعود إلى مرحلة الحرب الباردة، والذي يتمسك بمرجعية الفكر الماركسي التقليدي لم يعد مقبولا ولا مناسبا في زمن العولمة الليبرالية الذي بلغ من الانتشار مبلغا جعله يغطي أشد أنواع النظريات والمصالح الاجتماعية، تباينا، فهو يغطي الطيف السياسي من اليمين إلى اليسار، وهو مقبول في شتى العلوم الاقتصاد الاجتماع الدراسة الثقافية والسياسات الدولية وهو مطروح أيضا على لسان المجددين والتقليديين في الحقل النظري.

إعادة التأسيس للجبهة الديمقراطية في ظل الدور المتصاعد للطبقة المتوسطة

وعلى صعيد تونس، إلى جانب الثروات التي جلبتها العولمة الليبرالية، التي انخرطت فيها البلاد منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، والتي استفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، حلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق.وتجاهل النظام الديكتاتوري السابق وصول معدلات البطالة بين الشباب الذي يحمل شهائد جامعية، وسوء الأوضاع الاقتصادية في المحافظات المحرومة والمهمشة في الوسط الغربي والجنوب،وتحوّل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة تطال كل مناحي الحياة،وأهملت أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا يجوز التهاون فيها، واعتمد على السياسات النيوليبرالية من دون ضوابط ومن دون التفات كافٍ إلى قضايا توزيع الثروة والبطالة والأمية والفقر الخ...و لم يفعل وزراؤه الكثير للتعامل مع هذه الأزمات.
وكان النظام السابق يفاخردائما بأن الطبقة المتوسطة تبلغ 80في المئة من مجموع الشعب التونسي، غير أن دراسة للبنك الدولي تتحدث عن 47 أو 48 بالمئة، باعتبارها نسبة الطبقة المتوسطة من مجموع الشعب التونسي.وهذا الرقم (47 48 بالمئة) ليس رقما سلبيا على أي حال.

ويأتي توسع وتضخم هذه الطبقة المتوسطة الاستهلاكية التي تمثل نصف البيئة الاجتماعية التونسية، في سياق انخراط تونس في إطار العولمة الليبرالية، والدعم الغربي القوي للتجربة التونسية من خلال تدفق القروض على تونس من بنك الاتحاد الأوروبي، وكذلك تسارع رؤوس الأموال الغربية والخليجية على الاستثمار في تونس،الأمر الذي أسهم في زيادة معدلات التنمية في تونس أعلى نسبيا مما هي عليه في البلدان العربية المجاورة.
وباستثناء الدول الخليجية النفطية، كانت تونس تعتبرأغنى دولة عربية، إذ يبلغ الدخل الفردي فيها نحو4300 دولار. كما كانت تونس تعتبر الرائدة من بين هذه الدول في مجال التعليم، فنسبة المتعلمين فيها تتخطى مصر والمغرب بكثير، وهي تعد من أكثر الدول العربية إنفاقا على التعليم، إذ بلغت فيها حصة الثقافة من الدخل القومي نحو 7.2 في المئة، في وقت تنفق مصر نصف هذه النسبة، والمغرب 5،7 في المئة.كما أنّ تونس هي الدولة الأكثر تمدّنا من بين دول المغرب العربي الأفريقية، حيث يقطن 67 في المئة من سكّانها في المدن، في مقابل 56 في المئة في المغرب و43 في المئة في مصر.ويملك 80 في المئة من الشعب التونسي بيتا.

أمّا انخراط تونس في العولمة، فيمكن قياسه عبر حصّة الصادرات من الدخل القومي. وفي حين لا تشكّل هذه النسبة أكثر من 15 و24 في المئة من الدخل القومي المغربي والمصري على التوالي، تقترب النسبة في تونس إلى معدّلات الدول الأوروبية مع حوالي 40 في المئة. ومع هذه الأرقام والنسب، يمكن لكارل ماركس أن يصفق تقديرا وبهجة، وهو يصرح «كنت على حقّ!». وهو بذلك يعني تحديدا مسألة «حتمية الصراع» بين النظام وبين الطبقات الصاعدة، أي بين البنية السلطوية المتصلبة للدولة البوليسية التونسية والطبقة المتوسطة الصاعدة.

لكن النظام الديكتاتوري السابق المدعوم من حلفائه الغربيين، قام بتطبيق النموذج الصيني على تونس،والذي يتمثل في تأمين لقمة العيش للشعب مقابل الحرية،ومقايضة السياسة نهائيا بالاقتصاد، وتفضيل الوجود أوالبقاء على قيد الحياة على الهوية والمعنى. وكانت هذه الطبقة المتوسطة النابض الرئيسي، والمستفيدة من النمو، الذي نادرا ما نزل أدناه إلى أقل من 4 إلى 5 في المئة.إنه أداء رائع من شأنه أن يثير الحسد والغيرة من قبل جيران تونس، والذي كان في أصل العقد الاجتماعي مع عشيرة زين العابدين بن علي: في مقابل إبادة الحريات السياسية،يضمن النظام النجاح الاقتصادي لهذه الطبقة المتوسطة.إنه نوع من الاتفاق على الطريقة «الصينية » إذا جاز التعبير.

وهذه المعادلة الذهبية، المتبعة في أكثر البلاد العربية، هي التي يسمونها بالنموذج الصيني، وهي تعني الجمع بين إغلاق باب السياسة أو إزالتها من الحياة العامة وتحريم العمل فيها، في أي صورة كان، سواء كان عملاسياسيا مباشرا أو نشاطات مدنية، وتحليل الاقتصاد في أي شكل كان، سواء أجاء على صورة استثمارات أجنبية أو مراكمة للثروة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو الفساد والسرقة العينية.
انطلاقا من هذا التحليل، فإن مصطلح» الجبهة الشعبية «كإطار أيديولوجي وسياسي يعبر عن تطلعات الفئات الكادحة، لا يستقيم علميا وسوسيولوجيا في المجتمع التونسي في مرحلة ما بعد الثورة، لأنه يتجاهل أن تونس كانت معدلات النمو الجيدة فيها في مرحلة ما قبل الثورة، تعتبرالأعلى بين البلدان العربية خارج منطقة الخليج، ونجح النظام الديكتاتوري السابق نسبيا في تحسين المؤشرات الاجتماعية الرئيسية كالحد من الأمية ونشر التعليم وضمان درجة مقبولة من المساواة بين النساء والرجال في المجتمع، وهذه العوامل الثقافية والتمدّن والعولمة، تدخل جميعها في إطار «تشكّل الطبقة المتوسطة»، الأمر الذي يجعل من التطلعات المشروعة للطبقة المتوسطة التونسية إلى بناء ديمقراطية فعلية وحقيقية في تونس، مسألة في غاية من الأهمية.

فكان من الأجدر على قوى اليسار التونسي أن تركز الضوء على ظاهرة الطبقة المتوسطة التي تمتلك القدرة على تحقيق التحول نحو الديموقراطية بمجرّد وصول معدّل الدخل الفردي في البلاد 4 آلاف و300 دولار أمريكي. ولمصادفة الأرقام الغريبة، بلغت القوة الشرائية التونسية عند انفجار الثورة 9 آلاف دولار، وهو ما يعادل 2200 دولار عام 1975، زمن تحوّل إسبانيا نحو الديموقراطية. ويبقى السؤال، هل تصبح تونس الديمقراطية الأولى في القوس العربي؟
وتزامنت المرحلة الانتقالية في إسبانيا مع موت الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو عام 1975،وذلك بعد 40 عاما في الحكم.ولو لم يدعم الملك خوان كارلوس هذا الانتقال، لكان «الاستقطاب أدّى إلى العنف الاجتماعي». وبالرغم من فرارالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي،فإن ليس هناك من «خوان كارلوس» في اللعبة التونسية – أي شخصية محدّدة ممثلة للسلطة والشرعية.وخلافا لما حدث في إسبانيا، بدأت تونس تشهد أحداث عنف،نتاج عدم قدرة حركة النهضة، الطرف المهيمن في الترويكا الحاكمة على بناء الدولة المدنية، أي الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية.

وهكذا يبدو أننا في تونس، في حاجة ماسة إلى بناءجبهة ديمقراطية حقيقية، تتكون من مختلف أطياف المعارضة التونسية اليسارية والقومية والليبرالية، لمساعدة الشعب التونسي على تحقيق طموحاته في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومن أجل بناء نظام ديمقراطي جديد، هذا مع احترام السيادة التونسية.

ماذا يفيد التمسك بالمرجعية الماركسية التقليدية في زمن العولمة

لما كانت العولمة والتكنولوجيا تشكلان العاملين الرئيسيين اللذين يصوغان العلاقات الدولية، فإن العولمة تعني تشكلا جديدا من إدارة الأعمال الاقتصادية، مندمجة كليا على صعيد عالمي، مع الشركات المتعددة الجنسية، التي تمثل جزءا مهما من الإنتاج العالمي. والعولمة تعني السيرورة التي من خلالها تحاول الشركات العملاقة الأكثر دولية، إعادة تعريف قواعد اللعبة السابقة المفروضة من قبل الدول - الأمم لمصلحتها. وهكذا تمثل العولمة مظهرا جديدا يجسد القطيعة مع المراحل السابقة للاقتصاد الدولي. ففي السابق، كان الاقتصاد بين قومي، لأن تطوره كان محددا من قبل تفاعل المسار الذي يعمل جوهرياعلى مستوى الدول الأمم.

ويربط الكثيرون ذلك بمفاهيم الليبرالية الجديدة، والأسواق المفتوحة، وهيمنة الشركات متعددة الجنسية وعمالة الأطفال، والتفاوت الطبقي،والخطرالذي يهدد الرعاية الاجتماعية، وتخريب البيئة وتلوثها، والهيمنة الثقافية الأمريكية وتحديات أخرى تخيم على بداية القرن الحادي والعشرين.فإذاوضعنا السلبيات الناجمة عن العولمة في المقدمة، فإننا سوف ننسى الميزات والفوائد التي تحققت، والتي من أبرزها : الثراء، وابتكارات وإبداعات تكنولوجية، اجتماعية، ومنتوجات أقل وأكثر تنوعا، وإغناء الثقافات، وحرية متزايدة، ولا شك أن الجميع يتمنون الحصول على المزايا دون مواجهة السلبيات. إذا هل من الضروري تنظيم العولمة من أجل إبعاد، أو على الأقل، تخفيف أضرارها مع الحفاظ على ميزاتها؟ وهل ينبغي إيجاد قوانين اجتماعية وبيئية مشتركة ليغدو العالم بأكمله على القدر نفسه من المساواة كي يكون التبادل متوازنا وعادلا؟
الواقع ان نقد العولمة هو نقد عادل، ذلك ان الأحداث التي شهدهايوم 11 سبتمبر الماضي, والأزمة الاقتصادية والمالية التي تفجرت في عام 2008، دليل واضح على ان العولمة أخفقت فيما بشرت به من وعود، وزرعت عدم الثقة المطلقة في الاقتصاد العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة. ولهذا فان على الأمم التي امتلكت ناصية العلم وتعيش مجتمع الرفاهية أن تضع نصب اعينها الملايين الجائعة التي لم تحصل على العلم والثقافة, والتي تعاني من هول الظلم والجور الواقع عليها...

ضمن هذه الرؤية، يمكن أن نقدم اقتراحات لبلورة استراتيجية مقاومة للعولمة، التي لا ينكر أي إنسان عاقل ايجابياتها.
1 الشرط الأول لعودة التنمية المستمرة هو إعطاء الأولوية للسياسي على الاقتصادي، للمصلحة الجماعية على المصلحة الفردية. هذا الشرط لا يمكن ان يتجسد شرعا إلا عن طريق التعبئة المستمرة للمجتمع المدني وانخراط مباشر للمثقفين، وعودة التدفق الجديد للنخب السياسية.
2 الشرط الثاني: هو تجديد عقود اجتماعية تمكن المواطنين من العيش في كنف الكرامة الإنسانية والشعور بالاحترام بالانتماء إلى أمة، لا إلى قبيلة. والعدل يجب أن يكون مخصصا كحق، وفي الوقت عينه كواجب،و على كل مواطن أن يجد عملا يناسب كل مرحلة من حياته. وعلى المجتمع أن ينظم صفوفه لتأمين الوظائف للجميع ولكل الأعمار.
3 الشرط الثالث هو نفي النمط الواحد من معايير الاستهلاك.
4 الشرط الرابع هو مكافحة هدر الطاقة، والموارد من خلال إعادة توجيه معنى التقدم، واتجاهات البحث، وعادات الاستهلاك خاصة.إدارة الوقت.
5 الشرط الخامس هو التكوين المستمر ولكل الأعمار عبر نفي المعايير الإدارية، وتثمين معايير الكفاءة ومجموع العوامل المحددة لسلوك المستهلك.
6 الشرط السادس هو إصلاح النظام القضائي الدولي بصورة ديمقراطية، بما ينسجم مع احترام السيادة للدول وكرامة الأمم، واحتضان كل المجالات (علاقات دولية، تجارة، صحة، ثقافة، رياضة، بيئة وسياحة).
7 الشرط السابع ينبثق من الحركة الأمريكية المناهضة للتكنولوجيا التي تبحث في إعطاء طابع شعبي للتنظيم الجديد، لنمط العمل الأمريكي. إن العالم بحاجة إلى الانخراط في حركة ثقافية، وسياسية نشطة تمكن كل شعب، من حيازة التكنولوجيا الضرورية لتحقيق سعادته، وليس تكنولوجيا المنافسة التي تحقق السعادة للأقلية، والتي تسقط قسما من المستهلكين بسرعة، وتنمي كتلة العاطلين عن العمل مع كل تطور صناعي وتكنولوجي.

انطلاقا من هذه القراءة للعولمة، فإن دعاة التمسك بمصطلح الجبهة الشعبية كإطار سياسي للحكومة المؤقتة التونسية، وللعولمة الليبرالية، لا يزال يتعامل مع عصر ما بعد الحداثة بمنطق عدائي سلبي، كشر محض، أو تفاهة فكرية, أو ثرثرة ثقافية، أو قرصنة أمريكية، وهذا الموقف يعتبر في نظر المدافعين عن النظرة الماركسية التقليدية، التي ترى في ما يحدث اليوم مجرد تصحيح أو استكمال للإمبريالية التي تحدث عنها لينين. لكن القراءة النقدية للماركسية تعتقد أن التغييرات الجذرية في المشهد العالمي تجعلنا نرى العالم بصورة مختلفة بالكلية : بمعنى أن سيرورة العولمة تشكل «قفزة نوعية» وحالة جديدة بصورة جذرية أو مرحلة تاريخية حاسمة تحتاج إلى بلورة عدة مفهومية جديدة ملائمة لعصر العولمة، مستفيدين من الإنجازات المعرفية لفلاسفة ما بعد الحداثة كميشال فوكو وجيل دولوز وإن اختلفنا عنهما في الوقت نفسه.

نحو بناء جبهة ديمقراطية تتبنى الاشتراكية الديمقراطية

في ظل القطيعة الكبرى التي حدثت في عام1917 , قبلت الاشتراكية الديمقراطية التعددية الديمقراطية بوضوح، في تعارض مع الشيوعية.و لكن الاشتراكية الديمقراطية، وعلى نقيض الليبرالية، قابلت اقتصاد السوق بشرعية المطالب الاجتماعية، وفضلت دور الدولة. وبعد عام 1918،واجهت الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية تحدي حكم مجتمعات لازالت في بنيتها الاساسية رأسمالية،و شاركت في ائتلافات مع قوى سياسية أخرى. ولم تكن هذه الاحزاب مهيأة لمواجهة أوضاع حيث لاتستطيع تطبيق «برنامج الحد الاقصى»، أي الملكية الجماعية لوسائل الانتاج والتبادل.

وأخيرا بلورت الاشتراكية الديمقراطية برنامجا اصلاحيا متمحورا حول محورين.فهو يعني، من جهة،مشروعا اصلاحيا للملكية، مرقيا بذلك فكرة الملكية الاجتماعية مهما كانت الانماط(تأميمات، تعاونية الخ...) فلا يكفي مناقشة عقد العمل، بل يجب محاولة افتكاك الاستقلالية، وهذا لا يمكن تحقيقه الا جماعيا. أما المحور الثاني،فهو بكل تأكيد بناء دولة الرفاهية، أي تنظيم الجمعيات التعاونية الحامية لمختلف أشكال الضمان الاجتماعي لمواجهة أشكال المخاطر الجديدة المتمثلة في الصحة، والعجز، والبطالة.

وقد حددت الاشتراكية الديمقراطية برنامجها، وطرائقها، واهدافها، قبل عشرين سنة من الثورة الروسية.و الحال هذه فإن الاشتراكية الديمقراطية هي طريقة التفكير في الادارة، والاصلاح، والتجاوز، ولم تكن أبدا كنوع من الطريق الثالث.و كانت الفكرة الاساسية للاشتراكية الديمقراطية ترى ان تأميم ملكية وسائل الانتاج والتبادل ليس ضروريا لمقاومة لاعقلانية ولا مساواة الرأسمالية. وكانت الحكومات التي أرادت مكافحة الفوارق الاجتماعية،و هي تقود سياسات اقتصادية فعالة، طبقت سياسات مضادة للازمات الدورية من أجل السيطرة على تقلبات السوق، وتشجيع الاستثمار، وتطوير الحماية الاجتماعية، وتنمية مستوى التعليم. وقدمت أعمال كينز، التي وفقت بين المبادرة الخاصة وقيادة ديمقراطية للاقتصاد، نظرية اقتصادية للاشتراكية الديمقراطية. واختلف توسع القطاع العام حسب البلدان ومكانة الدولة،فهو قوي في النمسا وفرنسا، ومهم في بريطانيا، وضعيف في السويد أو في ألمانيا، ولكن لم تكن في أي من هذه البلدان شركات القطاع العام أدوات قطيعة مع السوق.

أما البعد الاخر للتجربة السياسية للاشتراكية الديمقراطية فتمثلت في أهمية التعددية السياسية والاجتماعية. ولاتنفي الاشتراكية الديمقراطية واقع الصراعات في المجتمع، بل انها اعتمدت على الاعتراف بالمصالح المتشكلة، وبشكل رئيس للنقابات وأرباب العمل.و لكنها اعتقدت ان طريقة حل الصراعات يجب ان تمر عبر التسويات, ولهذا وضعت اجراءات للمفاوضات بين مختلف الاطراف في المجتمع.
وليست الاشتراكية الديمقراطية التاريخية سياسة فقط, بل إنها بلا انفكاك ثقافة سياسية, تنطلق من التعددية الاجتماعية والدفاع عن «الاعتدال» السياسي, وعن بنيات التنظيم من أجل التفاوض والتشاور. وبصورة اجمالية عرفت السياسات الاشتراكية الديمقراطية نجاحات عملية مهمة.و أظهرت التحليلات الاحصائية لسنو ات950 1 - 1970,أن الفوارق الضعيفة جدا بين الرواتب, والحماية الاجتماعية الاكثر تطورا,و التوازنات الجيدة بين التوظيف, والاستثمارات,و الاجور, كانت قد تحققت في البلد الذي حكمته الاشتراكية الديمقراطية مدة طويلة- من غير أن نتحدث عن المقارنة مع البلدان الشيوعية.

و أسهمت العولمة في تدمير الأسس الإيديولوجية للاشتراكية الديمقراطية، والفئات الاجتماعية التي كانت تمثلها تقليديا , وفي التأثير على الممارسة السياسية في آن معا. ووجدت الاشتراكية الديمقراطية نفسها بين فكي كماشة : فمن جهة ,حاجات ضحايا العولمة الذين يطالبون بحماية اجتماعية أكبر من قبل الدولة والتي لا يمكن أن تتجاهلها، ومن جهة أخرى, تطلعات المستفيدين من الحركة الكبيرة لليبرالية الاقتصادية والمالية، الذين يرفضون أن يروا طاقاتهم مكبوحة من قبل ثقل الضرائب والبيروقراطية، والتي لا يمكن للاشتراكية الديمقراطية أن ترفضها تحت طائلة أن تحكم على نفسها بالبقاء في المعارضة.

لقد تحرر هذا اليسار الوسط من شعارات الحرب الباردة، وطرح خياره الجديد الذي يعرف ب «الطريق الثالث» كحل للالتباس الايديولوجي التاريخي والاقتصادي في ظل واقع جديد عناوينه العولمة وتحرير التجارة، والمنافسة العادلة والديمقراطية الاجتماعية.
فهل يسهم شيوع ايديولوجية يسار الوسط في تونس في حل المشاكل التي تواجه الثورة التونسية، وفي تحقيق المزيد من التلاحم والاندماج؟.

في البداية علينا ان نرى ان الجبهة الديمقراطية ليست كلا متجانسا ضمن رؤية ايديولوجية واحدة، بل هي تحتوي على مجموعة تيارات لعل أبرزها والأكثر شيوعا على المستوى الاعلامي ما يسمى «الطريق الثالث». اذ كان المقصود بالطريق الثالث هو الخط الوسط بين الماركسية كأقصى اليسار، والليبرالية الجديدة كأقصى اليمين، فإنه أقرب إلى الوسط أو يسار اليمين اذا جاز التعبير، وفضلا عن ذلك فان «الطريق الثالث» تريد أن تكون حركة سياسية نشطة تقوم بالدور الفاعل فيها الأحزاب اليسارية والقومية والديمقراطية، وهي من ثم ليست حركة فكرية نخبوية اطلقتها مجموعة من المفكرين السياسيين بقدر ما هي اعلان بارز عن تحولات خطيرة في المزاج السياسي الجماهيري المناهض لحركة النهضة، ولسياسات الحكومة المؤقتة.

الطريق الثالثة هي سبيل لتحقيق التجديد والنجاح في مجال الديمقراطية الاجتماعية المعاصرة وهي لا تعني أبدا مجرد اجراء تسوية بين اليسار واليمين، انها تسعى للحصول على القيم الجوهرية التي تميز الوسط واليسار وتطبيقها في عالم يتسم بالتغيير العميق في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، لقد تقبل الناس القيم التقليدية الخاصة باليسار الوسط والمتعلقة بالتكافل والعدالة الاجتماعية، والمسؤولية وتوفير الفرص، لكنهم يعرفون ان علينا ان نتحرك وعلى نحو حاسم الى ما وراء طرق التفكير القديمة، والى وراء يمين جديد ينادي بسياسة عدم التدخل الحكومي في اقتصاديات البلدان ويؤيد الفردية الضيقة ويعتقد ان الأسواق الحرة هي الحل الوحيد لكل مشكلة.

وهيمن على يسار القرن العشرين فريقان اثنان، اليسار المتشدد الذي رأى أن حكم الدولة هو نهاية بحد ذاته. واليسار الأكثر اعتدالا الذي قبل بهذا التوجه الأساسي لكنه فضل التسوية والحلول الوسط وأيدها، لكن يبقى ان الطريق الثالثة في اعادة تقييم حاسمة وجدية فهي تشكل القدرة على الحياة والنماء عبر توحيد فكر التيارين الهامين لليسار الوسط، المتمثل بالاشتراكية الديمقراطية والليبرالية اللتين كان لانفصالهما خلال هذا القرن دور كبير في اضعاف السياسات التقدمية في الغرب.
تمثل «الطريق الثالث» حركة جديدة وحديثة للوسط. وعلى الرغم من انها تقبل القيمة الاشتراكية الجوهرية للعدالة الاجتماعية، إلا انها ترفض مفهوم الصراع الطبقي بالمفهوم الماركسي التقليدي، باحثة بذلك عن دعم مختلف الطبقات. ومن جهة أخرى انها ليست نصيرة الحرية المطلقة. فالحرية الشخصية رهن الموارد الجماعية وتنطوي على العدالة الاجتماعية. كما ان الحكومة ليست العدو للحرية كما يقول الليبراليون الجدد، بل على العكس من ذلك، فإن الحكومة الجيدة جوهرية من أجل تطورها وتفتحها هذا التعريف لا يختلف معه التونسيون، الذين يريدون حداثة لا تتعارض فيها الفعالية الاقتصادية مع العدالة الاجتماعية، بل تتأسس الواحدة على الأخرى .

الطريق الثالث يدافع عن الضمانات الاجتماعية لدعم حقوق العمال ومحاربة البطالة. ويسعى لإرساء أساس مشترك لمعالجة القضايا الاشكالية الضاغطة على الاقتصاد والبنية التحتية وتحديد اطلاق برنامج مشترك لمعالجة البطالة وايجاد فرص عمل جديدة، وجعل المنافسة الاقتصادية اكثر عدلا وعقلانية والانطلاق نحو برنامج ضريبي اكثر جذرية وإصلاح النظام النقدي. يطمح
إلى بناء «جبهة ديمقراطية» وليس يسارا جديدا. وتمثل الطريقة الثالثة فكر وتيار «الاشتراكية الديمقراطية»، إنها أقرب إلى الاشتراكية منها إلى الرأسمالية الجديدة. وهي تجسد خطا سياسيا ايديولوجيا يجمع بحسب حساسيات مختلفة من اليساريين والقوميين والديمقراطيين وحتى الليبراليين يجمعها قاسم مشترك يتمثل في خيار الديمقراطية السياسية، والتخلي عن أسطورة بناء مجتمع آخر، والاقتناع بأن الرأسمالية، هي نمط انتاج وليست دينا، وان المبادرة الخاصة تخلق الثروة، لكن السوق لا تلبي كل الحاجات، وان تدخل الدولة يمكن ان يكون تحت شكل تنظيم من قبل السوق لا تحت شكل تدخلية الدولة القديمة بالمفهوم السوفياتي.

والحال هذه، فإن خطاب الطريقة الثالثة في تونس في المجال الاقتصادي هو عبارة عن بيان اشتراكي ديمقراطي،يشدد على ضرورة خلق التوازنات بين اساليب التمويل الفاعلة ومطالب العدالة الاجتماعية والمساواة وتقليص الضغط الضريبي.
من هنا بدأ الحديث الآن في تونس في عدة أوساط سياسية، عن أن فلسفة «الطريق الثالث»، يمكن أن تجد لها أصداء شعبية واسعة، اذا ما تحولت إلى أداة في ترشيد العولمة، لكي تصبح أحد الحلول الرائدة لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وضمان الاستقرار السياسي في البلاد،و إلى القيام بالتحديث الجذري للاشتراكية، باعتبارها الوسيلة لتخليص القوى اليسارية والديمقراطية من أجواء الغموض والالتباس الانتخابي، التي هي وحدها أيضا الكفيلة بدعم ومساندة الطبقة المتوسطة والعاملة عامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.