جزء كبير من أزمات الأنظمة في البلدن غير النامية، هو اعتمادها على معلومات خاطئة، وإحصائيات غير دقيقة، وإشاعات تجد من الهوى الشخصي ما يجعلها في لبّ القرارات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. حتى أن الأجهزة المنوط بها جلب المعلومة، أو تثبّت الأرقام الإحصائية أصبحت مختصّة في تلفيق ما تريد إن عجزا أو تكاسلا أو غيابا لوسائل العمل والتدقيق. ويزداد عملها خطأ كلما اكتشفت ذلك الهوى الشخصي، أو تلك الإرادة التلقائية لتقبّل الاشاعة، والاهتمام بها خصوصا إذا كانت تأتي في لحظة يحتاجها القرار السياسي، ويعتقد أنه استئناسا بها أو انطلاقا منها، يمكن أن يصل الى مبتغاه أو يحقّق فائدة.
وهكذا فإن إحدى أكبر إشكاليات الدول المتخلّفة هو ذلك البون الشاسع بين الحقائق وبين القرارات، وبين الواقع كما تجري شؤونه، وبين واقع آخر تمّ استنباطه.والمشكل أن الطبقة السياسية في تونس وفي الضفتين سواء الحاكمة مؤقتا أو المعارضة هي بطبعها طبقة متخيّلة لواقع أكثر منها عالمة به وهو وإن كان مثاليا مثل الغول والخلّ الودود إلا أنه غير موجود أصلا. وذلك متجلّ خصوصا في هذا الحراك الاجتماعي الكبير في تونس الذي لا يجد من يمسك لا بأسبابه المعلنة منها، ولا بجوهره، لذلك ظلّ حراكا منفلتا وساذجا على خطورته أحيانا. وغير ذي أفق رغم حركيته.الكلّ يفسّره بدون أن يفهمه حسب هواه، والكلّ يريد أن يستفيد منه أو أن يحدّ منه حسب موقعه.ومع هذا فشل التصوّر الأول ولم يفلح التصوّر الثاني، لأن الخيال الساذج بدوره هو المتحكّم في الاثنين.
ومتى كان الخيال الجامح يوفّر فرصة لإدارة شأن، أو البناء على حركة أو التأسيس على فعل؟
إذا انضاف الى هذا كلّه غياب المعلومة الصحيحة، وحضور لغو مصرّ أنه يملك الحقيقة، وينطلق من ثوابت ازداد البون اتساعا بين واقع في واد وقرار في واد آخر، لذلك سريعا ما يعزي هؤلاء وأولئك ما فاتهم من علم بالأشياء الى شعارات جاهزة، كالثورة المضادة التي يطلقها الواحد منهما على الآخر، وفي حالة غياب منطق استعمال هذا المصطلح استنجد أولئك وهؤلاء بمصطلح آخر لا يقلّ كسلا «ضرورات» الثورة في عنفوانها، و«حراكها» الذي هو من فعل التاريخ.
أما دليل ذلك التاريخ ففي ثورة فرنسية مرت عليها قرون ولا علاقة لها بالزمن الحاضر، أو في حدث تاريخي يخص رسالة سماوية فصّلها القدر وحده، أو وفي أقرب الحالات زمنيا في حدث جلل تم خلال القرن الفارط في الصين او في روسيا إن هذا التمثّل للثورات مع ذلك التيه في إدارة شؤون الدولة والمجتمع مع كل تلك القدرة على الصبر والتبرير للأخطاء هي التي تشرح كل هذا الانقباض وكل ذلك الفزع من أسرار يعلمها الا المستقبل الذي لا يمكن أن يُعرف ما دام الواقع غير معلوم وما دام الحاضر غير مفهوم.
وسوف تظل حالة الدوران في الحلقات المفرغة ملازمة لتونس حتى وإن أعادت انتخابات ورمت ثانية بطبقة سياسية جديدة للحكم أو في المعارضة لأن المسألة تتجاوز هذا الهدف الهين والبسيط الى تحقيق أهداف كلما مر يوم كلما تواضعت أكثر.
وفي دولة بلا موارد أقصى ما تتمناه أن تكون بلد خدمات مع طبقة سياسية تعتقد في أمنية نظرية أن تصبح تونس مثل سويسرا كما قيل أو كالإمارات العربية مثلما تردد أيضا في أقل الحالات يبدو الخيال الطفولي مجنّحا في فضاءات شعرية لا علاقة لها لا بالزمان ولا بالمكان. تماما كما جنّح بعيدا خيال كل أولئك المفكرين العرب الذين أصبحوا يؤسسون وإن بخجل وبتسريبات مدروسة لكل ما يناقض ما كتبوه أو قالوه حول الربيع العربي في بداياته مأخوذين بحماسة غريبة عن وسائل عمل الباحثين ومسايرين للحظة نشوة كانت تنتظر في تغيير أنظمة أخرى أن تفتح كل الطرق المؤدية الى الخلاص النهائي فيما الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ثابتة ثبوت الجبال لم يزدها اطلاق عقالها الا فوضى يصعب ترتيبها، وتمرّدا يأتي على بقايا ما ترك!