شمس الدين العونييظل سؤال الشعر سليل تلك الحيرة الكبرى التي رافقت الإنسان في هذه الدروب الموحشة من المسيرة الكونية التي تدفقت فيها مياه الكلمات والصور والخيال، سؤالا محفوفا بالذهول وباللمعان حيث العناد والصبر وبراءة الأطفال الأولى ولذلك تعددت ينابيع القول الشعري تعدد ألوانه وأشكاله وهواجسه وقضاياه بل إن الشعر ظل من أزمنته الأولى عصيا على التأطير الساذج والمفاهيم البسيطة. هو الطائر المحلق في السماوات بامتياز، الشعر بهذه السياقات ظل فنا لا يقول بغير ذاته المبتكرة والمتجاوزة والعابرة للحدود والألوان، إنه اللون المنفلت من الموت حيث يريد البعض قتله بعناوين ممجوجة ومنتهية فهو الصوت الخالص خارج قطيع الغناء والطلل والنوستالجيا الخبيثة التي تحلم بخنقه أو ترويضه على الأقل في دوائر النظم وأوهام القوالب الخاوية.لقد كان مجد الشعر طيلة أزمنة بهائه المتجدد وبهجته بين الأكوان حيث عناق الإنسان في تراب حر فوقه سماء.
إن حيوية الشعر الإنساني ومنه الشعر العربي لمعت من فكرة هذا الخروج والتدفق الوجداني نحتا للقيمة المضافة في أرض اللغة وفق وعي حارق باللحظة وما ينجم عنها من نظر عميق وحلم ثاقب.
الشعر هو المحبة الفارقة تجاه التفاصيل والعناصر وعطور الأمكنة وهو ما خلفته الأنامل وما يسرقه الطفل في غفوته من الأحلام وهو أيضا ذاك النواح الخافت تجاه الحال بعذوبة اللغة التي تقول ولا تقول... و لكن الشاعر الراحل موضوع هذا النص و نعني عبد الحفيظ المختومي يقول في قصيدة واردة بالاعمال الكاملة التي صدرت بعد رحيله تحت عنوان الحياة رقصة: وحيدا...هو السندبادفي ترحاله كانو في كل أمانيه للآخرين جاب البلاد الحبيبة...و البعيدةو شواطئ العاشقينأمطرت عينه مرة نجمةو ارتدى صوته عمرهفيا زمنا اعده الى ظلهيكسر موج الدنىو رياح الأشرعة...ما القصائد ؟... ما اللغة؟ ... ما الشعر اصلا ؟ اسئلة محيرة تبتكر حيرتها من جنسها باعتبار المساحات الممنوحة لمداراتها المرعبة والمربكة والمأخوذة بتلوينات الخيال والدهشة والذهول. لذلك يقف الشاعر تحديدا مأخوذا بالاحوال لا يقنع بغيرها في ضرب من التأمل والوجد والصمت المفجر للمعاني.. انها المتاهة المحفوفة بالجمال... بالمعرفة وبالفداحة الكامنة خلف المغامرة مغامرة الكتابة بما هي حرفة... وحرقة... والشعر هنا فصاحة القلب وفق سياق مفتوح على الكينونة لتظل الطفولة عنوانا باذخا من عناوين الشاعر الذي يرى بعين القلب ما لا يراه بعين الوجه ... القصيدة اذن وبهذه الافكار الآسرة تلمس للاشياء وتقصد للألفة تجاه العناصر والتفاصيل وأبعد من ذلك هي لعبة الكشف باللغة وفي اللغة في جوهرها وعنوانها... لاجل الصفاء النادر هذا الذي تنجم عنه حالات الذوبان والتداخل بين الذات الشاعرة... والآخر... الآخر ونغني به مثلا تيجان المعاني والحروف ودهشة الامكنة والازمنة... ومتعة هذا الادراك لحظة الكتابة...بابل...ازرع الشرفات...ريحاناو ألبس الفتيات...عطرا و سنابلانني...تموز باقفوق جرحي حالما...كالمستحيل............... الكتابة وعي استثنائي ... والشعر هو أقصى درجات هذه الكتابة وهذا الوعي. وتأخذنا مفردة أقصى الى ما يعني القلق... انه القلق القديم... قلق المتنبي وقلق شاعر الآن والهنا.. انه القلق الجميل المؤسس بما به تستقي العناصر والتفاصيل في تناسقها وفي فوضاها وفي ما يجترح منها من اللغات والمعاني... هكذا يأخذنا الشعر الى دروب شتى ومنعطفات فادحة لا نلوي معها على غير القول بالمتعة في عنفوان تجلياتها الجمالية والتعبيرية بما يعزز من روح التكثيف تجاه الشجن الانساني الاخاذ الذي معه وضمنه تفتح الكينونة تفاعلاتها مع الذات والآخر في ضروب من اسئلة الوجد والفلسفة والذوبان والحلول والحس... هذا أنا...في الأخيرلغتي ...و طنيو قصيدتي اسرائي...و مثواي الأخيررحلتي...رقصة زوربا الأموي في أدغالبغداد ضاعت الفسطاط منهو ضيعته القيروان...انها رحلة الشاعر المأخوذ بفجيعة العناصر و التفاصيل و المفعم بالمحبة في الان ذاته تقصدا لعوالم الطفولة الباذخة..وقد عبر الشاعر الراحل عبد الحفيظ المختومي المعروف بين أحبته ب(حفة) عن عمق شعري و وجداني نادرا ما نجده عند غيره من مجايليه فضلا عن سموه الانساني الذي عرف به على عكس الأشباه و المفتعلين...بهذا الكتاب الحاضن للاعمال الشعرية للشاعر عبد الحفيظ المختومي تكون المندوبية الثقافية بتونس قد عملت على المساهمة في حفظ الذاكرة الادبية التونسية طبعا الى جانب جهود الادباء اصدقاء حفة و عائلته التي كانت في مستوى الوعي و اللحظة الشعرية للراحل و لا سيما زوجته السيدة وسيلة العياري المرأة المثقفة التي كثيرا ما ذكرها الشاعر في قصائده و نصوصه..