الإفراج عن الوزيرين السابقين عبد الرحيم الزواري والبشير التكاري، واحتمال الإفراج عن آخرين في الفترة القادمة من بينهم محمّد الغرياني آخر أمين عام لحزب التجمّع المنحل ، طرح أكثر من سؤال عن التوقيت، والأبعاد، وعن علاقة ذلك بالصدام المتواصل بين النهضة وحزب الوزير الأول السابق الباجي قايد السبسي. هناك من يرى في المسألة صفقة سياسية، تضمن لرموز النظام السابق العودة لواجهة الأحداث ، للدخول في مواجهة مع حركة نداء تونس، تفضي إلى تحييد التجمعيين الذين اتسم موقفهم إلى حد بالتردد وغياب المبادرة الجريئة والواضحة، وهذا التكتيك السياسي يهدف كما يرى القائلون به إلى سحب البساط من تحت أقدام الباجي قايد السبسي وحزبه نداء تونس، الذي غير خطابه 180 درجة من التجمعيين، وأعلن الحرب على محاولات إقصائهم من الحياة السياسية، رغم أن الحكومة السابقة هي من صادق على الفصل 15 الذي أعدته هيئة تحقيق أهداف الثورة بإشراف عياض بن عاشور.
هذه القراءة تبدو ممكنة ولكنها صعبة التحقق، لأنّ الحالة المزرية التي وصل إليها نظام بن علي ، والموقف السلبي من قواعد التجمع تجاه قياداته تجعل التعويل على بعض رموزه مناورة محفوفة بالفشل، اللهم إذا استثنينا العوامل الجهويّة والثقل الذي يتمتع به بعضهم في بعض المناطق وخاصة الداخلية ومن أبرز هؤلاء كمال مرجان الّذي يتّجه القضاء إلى غلق ملفه ، إضافة إلى تعالي الأصوات لإعادة الاعتبار للمسؤولين الأكفاء الذين لم يتورطوا في الفساد، ولم تكن لهم علاقات بعائلة الرئيس المخلوع على غرار محمّد النوري الجويني وعفيف شلبي ومنذر الزنايدي والتيجاني الحدّاد وكمال العيادي وسليم التلاتلي ومحمد جغام وعبد السلام منصور وصلاح الدين ملوش. معتقلون سياسيّون !!
القراءة الثانية والتي تبدو بحسب الكثير من المتابعين وخاصة من المحامين ورجال القانون الأقرب إلى واقع الأمور وهي أنّ الإفراج عن هؤلاء المسؤولين جاء نتيجة طبيعية «للملفات الفارغة» التي أحيلوا من أجلها، وطول المدة التي قضوها في الإيقاف بما يجعلهم في حكم المعتقلين السياسيين لخلو قرينة الإدانة، فوضعية عبد الرحيم الزواري مثلا شاهدة على ذلك، فقد تمّ الإفراج عنه خلال شهر أوت 2011 ولكن تسريب الخبر وردة الفعل التي جاءت في سياق استهجان فرار السيدة العقربي حينها، حكمت على الرجل بالعودة إلى زنزانته، وهناك حالات أخرى مشابهة تطرح أكثر من سؤال عن مدى جدية ما صرح به الوزير الأول السابق من احترام حكومته لاستقلالية القضاء وهي الزج بكمال مرجان في قضية تمويل التجمع من طرف مجموعة ال 25 التي استثنت من الاتهام مسؤولين أرفع منه في قيادة التجمع في مستوى أمين عام أو أعضاء في الديوان السياسي.
كما أنّ إيقاف محمد الغرياني في نفس اليوم الذي بدأ فيه التجمعيون تحركاتهم ضد الإقصاء واستعدادهم لإجراء نقدهم الذاتي وتصويب ما قد يكونون وقعوا فيه من أخطاء، يطرح أكثر من سؤال عن عدم إيقاف الأمناء الآخرين العامين والمساعدين ومجموع أعضاء الديوان السياسي الهيكل القيادي الأعلى في التجمّع المنحل.
السؤال المطروح منذ فترة وما يزال قائما إلى حدّ الآن هو هل كانت محاكمات رموز النظام السابق، محاكمات جدية أم تصفية حسابات بين البارونات، وتقديم أكباش فداء لإلهاء الرأي العام وكسب الوقت وخفض درجة الاحتقان في الشارع التونسي آنذاك؟ ، وقد تكون لجنة مكافحة الفساد لعبت هي الأخرى دورا في هذا الاتجاه وتقريرها يكشف عن وجود « مطبخ سري» تحركه دوافع وأهداف قد يأتي اليوم لانكشافها، والدليل على ذلك هو مثلا إفراد اللجنة صفحات عديدة لحفلة ماريا كاري، وتوجيه اتهام لكمال الحاج ساسي كاتب الدولة للشباب بأنه «عقد اجتماعات تنظيمية» في مكتبه ، مقابل الصمت التام، عن مواضيع مثل التجارة الموازية أو الصفقات العمومية أو الخوصصة.
تحميل مسؤوليّة وتوجيه أنظار
الملاحظ هنا أنّ المسؤولية عن الملفات الاقتصادية حملت لشخص واحد هو المنجي صفرة، مستشار المخلوع، ولم يتم إيقاف أي مسؤول آخر من الفريق الاقتصادي بقصر الحكومة بالقصبة، الذي كان يشرف فعليا على إدارة الملفات الاقتصادية، من اللجنة العليا للصفقات، إلى اللجنة العليا للاستثمار...واضح أنّ الاتجاه كان تحييد طرف، وتحميل المسؤولية لآخرين ، والنتيجة هي أنّ القضاء كان واقعا تحت تأثير الشارع الغاضب الراغب في معاقبة الفاسدين، والحكومة وما وراءها من لوبيات تريد توزيع الأوراق من جديد على أساس تصفية الحسابات الشخصية وحتى الجهوية في بعض الأحيان.
وفي جميع الحالات ، وبحسب ما تذهبُ إليه الكثير من التحاليل والتقييمات، فإنّ الإفراج عن بعض رموز النظام السابق قد يكون ضربة قوية لمصداقية الباجي قايد السبسي وحكومته وخاصة وزير العدل الأزهر القروي الشابي، والمحامي رضا بلحاج الذي كان من أبرز الوجوه والشخصيات التي ضبطت توجهات الحكومة في إدارة ملف الفساد، وقد يكون الإفراج نقطة إيجابية للحكومة الحالية التي يُصرّ أعضاؤها وخاصة وزير العدل نورالدين البحيري على أنها لا تتدخل في شؤون القضاء وتبحث عن قضاء مستقل لا يخضع للأهواء السياسة وتصفية الحسابات أو إلى منطق التعليمات والتوصيات.
صفقة سياسية أم دليل على أنّ السلطة رفعت يدها عن القضاء، سؤال ستجيب عنه الأيام القادمة ، والتطورات في ملفات عديدة، ستبعث معالجتها في إطار القانون برسالة قوية في مختلف الاتجاهات بأنّ القضاء التونسي، بات يعمل في ظروف أفضل من الأشهر الأولى بعد الثورة حين كان بين مطرقة الضغط الشعبي وسندان ما قد يكون صراعا مفتوحا بين أركان النظام السابق، وُظف فيه القضاء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لتصفية حسابات لا علاقة لها بالعدالة ولا مقاومة الفساد ومعاقبة الفاسدين بل للدفع تجاه أوضاع ما فيها الكثير من الحسابات السياسيّة والماليّة والاقتصاديّة وحتّى الأمنيّة.