لم تكتف الولاياتالمتحدة، غداة احتلالها للعراق،بالقضاء على مقدّراته الاقتصادية وإمكاناته العسكرية فحسب بل عملت، بطرق شتّى، على القضاء على رصيده الرمزي من خلال القضاء على دوره الثقافي والفكري والأدبيّ، وتحويله إلى مقبرة كبيرة، إلى صحراء شاسعة.ليس لها من دور سوى إنتاج براميل النفط وتصديرها إلى العالم الخارجي. في هذا السياق يندرج سطو جحافل اللصوص، خلال الغزو الأمريكي، على متاحف العراق وأماكنه الأثريّة..وفي هذا السياق يندرج نهب السماسرة والمجرمين للكثير من مكتباته وحرق مخطوطاته التي لا تقدّر بثمن، وفي هذا السياق أيضا يندرج القضاء على الكثير من علمائه وأكاديمييه... يعلّق أحد الكتّاب العراقيين على كلّ ذلك قائلا: لا يمكن إن تفسر عمليّات النهب والسطو بأنها حالة عرضية للاحتلال فحسب, وإنما يجب إن تفهم على أنها نتاج مدروس ومهيأ له مسبقا, ويندرج ضمن مخطط كبير يهدف إلى سلخ العراق عن عمقه التاريخي وإلغاء هويّته وإفراغ ذاكرته.... فسرقة هذه الآثار التي تجسد رؤية إنسان وادي الرافدين إلى الحياة وتمثل استجابته لمتطلباتها وإجابته عن أسئلتها ثمّ انتزاعها من وطن هذا الإنسان الذي أبدعها وتحويلها إلى بلاد أخرى.. كلّ ذلك إنّما يهدف إلى ما يسمّيه الأمريكان بمحو اللوح... لوح الذاكرة والوجدان الثقافي العراقيّين...
وتشير التقارير إلى الدور الكبير الذي نهضت به الدوائر الصهيونية في دفع عصابات المجرمين والسراق الى السطو على تلك المتاحف والمواقع الاثرية..كما تشير إلى تهريب الكثير من اللقى والقطع الاثرية الى إسرائيل وادعاء علمائها المزعومين أنّ تلك اللقى والقطع تشكّل جزءا من التراث اليهودي...
لكن العراق الناهض من رماده يسعى اليوم،رغم كلّ المعوقات، إلى استعادة دوره الثقافيّ بعد صمت وانكفاء طويلين مستشرفا أفقا جديدا.. فالثقافة، بالنسبة إلى هذا البلد ليس زخرفا أو زينة أو نفلا زائدا، وإنّما هي هويّته، رمزه الكيانيّ، ذاكرته الذاهبة بعيدا في الزمن..وقد لاحظنا، منذ فترة قصيرة، تعدّد التظاهرات الأدبية والثقافية التي تؤكد، كلّها، أنّ العراق بدأ يتعافى...وقد أشرت في عمود سابق إلى المهرجان العالمي الكبير التي نظمته جمعية أهلية في مدينة الحلة واستقطب مثقفين من كل أنحاء العالم...وقد كانت الغاية من إقامته، كما أعلن عن ذلك مديره، «لفت انتباه العالم إلى أنّ العراق لا يفتأ يتجدد من خلال محَنِهِ..وأوجاعه وهي كثيرة «.. ويأتي إعلان اليونسكو بغداد عاصمة للثقافة العربيّة سنة 2013 تتويجا لهذه المجهودات الرامية إلى استعادة العراق لدوره الطبيعي في المشهد الثقافي العربي... يقول الناقد فاضل ثامر رئيس اتحاد الكتّاب العراقيّين إنّ بغداد ستشهد عشرات المهرجانات الثقافية والمسرحية والسينمائية والتشكيلية والشعريّة وستكون أجمل وأروع طيلة عام 2013 بحضور المئات من ضيوفها من كل أنحاء العالم... وستتحول إلى قبلة لكل المبدعين والمثقفين في العالم وستضيء بشعلتها الأزلية الدروب أمام كل الباحثين عن الثقافة والمعرفة والحقيقة..
وكلّ من يقرأ الصحف العراقية هذه الأيام يفاجئه سيل الاقتراحات التي رفعها البغداديّون إلى القيمين على هذه الاحتفالية من أجل تجميل المدينة الخالدة: بغداد. ومن بين الاقتراحات التي لفتت انتباهي, الدعوة إلى ترميم بيوت الجواهري ونازك الملائكة ومنير بشير والقبنجي وناظم الغزالي وسليمة مراد وزهور حسين وغيرهم من عمالقة بغداد وتحويل تلك البيوت إلى متاحف... ففي إنقاذ هذه البيوت إنقاذ لجزء كبير من الذاكرة الفنّية العراقية.
لكنّ هذه الاحتفاليّة تظلّ، في نظري، مبتورة ناقصة ما لم يعمل أصحاب القرار والمسؤولون عن الشأن الثقافي إلى استقدام المثقفين العراقيين المنتشرين في كلّ أنحاء العالم وإتاحة الظروف الملائمة لاستقرارهم من جديد في أرضهم وبين أهلهم وذويهم بعد سنين طوال من النفي والتشرد والاضطراب في أرض الله الواسعة... هؤلاء كانت معاناتهم مضاعفة..فقد كابدوا محنة العراق على امتداد سنين طويلة... ثمّ أكرهتهم الظروف التي نعرفها جميعا على مغادرته والاستقرار في بلاد كثيرة... هؤلاء هم ثروة العراق، مجده، ملح أرضه، صوته، وجدانه... ففي تكريمهم تكريم للعراق السخيّ وفي الاحتفاء بهم احتفاء بروح بغداد الخلاّقة المبدعة...