قد نحار كثيرا ونقلق ونتألم مما يجري في وطننا نبحث عن تفسير وتبرير ونلقي التهم وندين.. نواب متكاسلون يتجادلون وكثير منهم غائبون.. رئيس للدولة يخيل لنا احيانا انه يخبط خبط عشواء في الليلة الظلماء.. حكومة تحاول الاستفراد بالرأي وتتخذ القرارات ثم تتراجع عنها مقتنعة أو راضخة.. معارضة اكبر همها تعطيل عمل الحكومة.. أحزاب تتطاحن وتتنابز وكل منها يرى انه الأجدر بالحكم.. والأخطر من هذا كله شعب مشتت يسير على غير هدى.. هذا يبحث عن صنم يعبده. وذاك يبحث عن مكسب دونما تأخير ولو بالتخريب وتعطيل المؤسسات والحياة العامة.. وثالث همه التظاهر والاعتصام.. ورابع اصبح يمارس «الثورة» بالايجار ويتحول الى عصا لمن يدفع اكثر الخ.. ونتساءل لماذا نحن هكذا مسؤولين ومواطنين وفي رأي البعض حكاما اولي امر ورعية.. إن ما يجري حسب رأيي هو نتاج لعقود مرت في حياة شعبنا.في عهدي بورقيبة وبن علي.. هناك ايجابيات لا تنكر خاصة في العهد البورقيبي الا ان هناك سلبيات طبعت المجتمع.. أهمها تأليه الزعيم وفرض الرأي الواحد و«ديمقراطيتهما» هراء.. تشويه بل ومقاومة الأصل في الشعب التونسي وهو العروبة والاسلام.. وفي هذا الاطار رُبطت تونس بالغرب سياسة وقوانين اجتماعية أهمها ما يتعلق بالمرأة.. وزاد بن علي سلبيات قاتلة.. ففي اطار سياسة شعبوية دعائية اضعف التعليم بحجة تحقيق اكبر نسبة من التمدرس والنجاحات فافرز جيلا يحمل شهادات بغير مستوى مناسب فتكاثر عدد الخريجين فيما اصبحت الشهادات التونسية في العالم لا تساوي ورقها.. تكريس عقلية التواكل وانتظار الهبات عن طريق ما سماه « التضامن».. نشر الفساد في الاخلاق عموما وفي المعاملات بشكل خاص حتى اصبحت الرشوة والمحسوبية مدخلا لازما لقضاء الحاجة.
وجاءت «الثورة» بطوفان «حريات».. لكن من دون فكر موجه بل ونعاني من هذه السلبيات..وجاءت الدولة «الجديدة»كما يحلو للبعض تسميتها.. ولم يشذ الا من رحم ربك عن التأثر بتراكمات الماضي..فالحكم بقي الرأي الواحد والزعيم الواحد بعنوان الشرعية.. المعارضة لا تتحدث عن برامج بل عن الزعيم.. عقلية الغنيمة في الحكم.. عقلية التواكل والكسل وانتظار عون الدولة وتحميلها وحدها مسؤولية توفير كل شيء وبسرعة.. ضعف مستوى الأداء السياسي والاداري معظمه بسبب البحث عن الولاءات.. انعدام الحس الديمقراطي بل والحضاري والمدني.. استمرار الفساد حتى وان تغير اللبوس.. ومن هنا نرى ما يحصل من قصر قرطاج الى القصبة الى باردو الى أصغر قرية في ريفنا البائس مرورا بأعرق المنظمات..
صحيح قلبنا النظام لكن لم نتهيأ لثورة فالثورة اكبر من انتفاضات حتى لو أدّت الى قلب النظام.. وما نراه اليوم هو حصاد ظواهر سلبية تراكمت في باطن النفوس وظاهرها على مدى عقود.. وعلى قدر النماء يكون الحصاد.