ربما كان حجم المسروقات بين أموال وذهب وعقارات وغيرها من الأشياء الثمينة التي وضع النظام السابق يده عليها كبيرا وربما كانت قيمة مقدرات البلاد التي تم استنزافها كبيرة وموجعة ذلك أنه كان من الممكن أن توظف في معالجة مشكل البطالة وأن تخفف من حدة الفوارق بين جهات البلاد ولكن ما لا نستطيع أن نقدر حجمه لأنه أكبر من الإحصاء هو ذلك الدمار في العقول والأخلاق وها أن التونسيين يقفون على حجم الخسائر يوما بعد يوم. لا تغيب الأمثلة يوميا الدالة على أن سياسة بن علي كان تأثيرها التعيس على الناس وعلى أن التركة مزرية ومخجلة لمجتمع مثل المجتمع التونسي المعروف عنه أن ثورته الأساسية متأتية من عقول المواطنين. لقد ساد الظلام في عهد النظام السابق والظلامي ليس بالضرورة ذلك الإنسان المتطرف دينيا. الظلام يعني كذلك سد المنافذ على الحريات ونشر نوعية من الثقافة لا تزيد إلا في تعطيل العقل وفي تكريس تقاليد تقوم على الكراهية وعلى الحقد. لقد كرست سياسة بن علي عقلية التواكل والمحسوبية ذلك أنه كان من النادر أن تجد الشخص المناسب في المكان المناسب. كانت سياسته تقوم على التقليل من شأن العلوم والمعارف وتضرب عرض الحائط بالقيم والأخلاق الكريمة بترجيح كفة الجاهل والترويج لثقافة الإبتذال في كل شيء تقريبا. صحيح الديكتاتورية شيء منبوذ ومقيت ولكن حتى في الديكتاتوريات فإن الأمور تختلف. لقد كان بن علي ديكتاتورا ظلاميا وكان عهده مظلما رغم أنه كان يطرح نفسه على أنه لائكي وحداثي والحقيقة أن اللائكية التي تعني بالأساس احترام الأديان والحداثة التي تعني الإنفتاح على العلم والمعرفة وعلى استعمال العقل، منه براء. لم يكن بن علي حداثيا ولا لائكيا لأنه ووفق ما تبين للناس لا يفقه لا في هذه ولا في تلك بل لقد كان ظالما وظلاميا من حيث تركيزه لمناخ يقوم على الفساد والترويج لقيم دخيلة عن مجتمعنا من بينها اللصوصية والغش والنفاق والتسلق الإجتماعي على ظهور الناس وعلى حساب أحلامهم وتعبهم. لقد تهاوى في عهده صرح التعليم بأقسامه المختلفة الذي بناه سلفه الزعيم بورقيبة الذي شجع على العلم وعلى المعرفة. لقد عم الجهل وشحت القلوب لأن السلطة الفاسدة لا تولد إلا مناخا زجريا يقوم على الريبة وعلى الكراهية ويمقت التسامح وسعة البال. لقد كان إنسانا جاهلا محاطا بجهلة فماذا نتوقع من مجتمع سادته لسنين قيم بغيضة كتلك التي ذكرنا. لقد كتم المخلوع وزبانيته الحريات وزج بالناس في السجون لأنها تخالفه الرأي وها أننا ندفع اليوم الثمن باهظا. النفوس مريضة والناس متعبة من تراكمات السنين. المشهد يحيلنا في بلادنا اليوم على تطرف وظلامية دينية في أكثر من بقعة بتراب الجمهورية وفي معاقل العلم بالخصوص وعلى محاولات هذا فرض قانونه بيده على حساب الآخر وكأننا في مجتمع الغاب حيث يحاول القوي أن يفرض سلطته على الضعيف وحيث العضلات المفتولة أصبحت الفيصل في كثير من الأحيان. المشهد فيه اليوم أناس لا هم لهم إلا أن تعود بنا إلى العصور الحجرية حيث المرأة ترتد إلى مرتبة دونية وحيث تتحول إلى مجرد شيء في الوقت الذي نتوق فيه أن يحقق دستور البلاد المرتقب المساواة كاملة بين الجنسين. المشهد يحيل اليوم على انفلات في كل شيء وفوضى عارمة تكاد تعصف بكل شيء لماذا؟ لأن بن علي دمر البلاد وجعلها ركاما. المقدرات مسروقة ومنهوبة والنفوس مريضة والناس التي انتهكت حريتها من الصعب عليها أن تلتئم جروحها بعد أشهر من استرداد الحرية بفضل الثورة الشعبية. فكيف لتونس أن تنبعث بعد كل هذا وكم يلزمنا من وقت لإعادة البناء وشفاء النفوس؟