لم أتوقّف يوما عن القول أمام أي إشكال سياسي عربي بأن مصر هي الترمومتر، نقرأ على مؤشره كل الأحداث، وعندما تكون مصر قوية فاعلة نحسّ أننا كلّنا كذلك، ويوم جاء عبد الناصر الى حكمها شعر العرب في كل أقطارهم بالعزّة والكرامة مادام زعيم أكبر بلد عربي يتحدث باسمنا جميعا ويقول: ارفع رأسك أيها العربي، وقد رفعنا رؤوسنا وجابهنا أعتى الأنظمة، وقد رأينا كيف أن ثورة مصر عام 1952 قد امتدّ تأثيرها الى العراق واليمن والسودان وسوريا وليبيا. ويوم انتصرت مصر في حرب أكتوبر 1973 أحسسنا بأننا انتصرنا كلّنا على عجزنا وتردّدنا ونكستنا في الخامس من حزيران (جوان) 1967 وهي الهزيمة التي جعلت الإرهابيين الصهاينة يسيطرون على كل الأرض الفلسطينية.
ذلك النصر الذي لم يوظف في سياقه ولا بشروطه فكان ما كان وعشنا حتى رأينا علم الارهابيين الصهاينة يرفرف في سماء القاهرة العزيزة. ذهب السادات، دفع الثمن حياته، وجاء بعده مبارك وحكايته معروفة.
ويوم انطلقت ثورة تونس في 17 ديسمبر 2010 لتتوج بالنصر صبيحة 14 يناير (جانفي) 2011 أدرك الأخوة المصريون الذين لم يتوقف صراعهم مع مبارك ونظامه أن الدكتاتوريات مهما طغت فهي ستهزم ذات يوم مادام هناك شعب يصرّ على إسقاطها. وذهب مبارك الى جحيمه كما ذهب بن علي في رحلة هروب، وبعدهما سقط القذافي وعلي عبد اللّه صالح. وعندما جاء د. محمد مرسي للرئاسة كان منافسه الأقوى رئيس وزراء حسني مبارك د. أحمد شفيق وهو من عسكر مبارك فكانت في الأمر مفارقة كبيرة إذ كأن الثورة لم تقم.
وقد سبق لنا الكتابة عن الموضوع المصري في هذه الزاوية وكنا نتمنى لو أن الأخ حمدين صباحي هو الرئيس المنتخب وكان ذلك ممكنا جدا لو أن الانتخابات قد حسبت بطريقة أخرى، فحزب الحرية والعدالة المنبثق عن حركة الاخوان المسلمين قد فاز بالأغلبية في البرلمان وأصبح متاحا له أن يكون رئيس الوزراء منه، وأن يمنح الحزب صوته في الانتخابات الرئاسية لحمدين صباحي دون غيره لا أحمد شفيق ولا عمرو موسى الذي يظل متهما بكونه كان وزير خارجية مبارك وسفيره قبل هذا في واشنطن ثم أمينا عاما للجامعة العربية تتجدّد ولايته، ولا الدكتور محمد البرادعي الذي يظلّ متهما في موضوع أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة. ورثت الثورة المصرية نظام مبارك الذي كان يعتمد على الجيش والداخلية وعلى «ترزية» القضاء.
ويوم تسلم د. محمد مرسي الرئاسة كان عليه أن يقوم بخطوات تعيد ترتيب الوضع في البلد، ولكن القضاء كان في وجهه، وصدر الحكم القضائي بحل البرلمان، وبدأ «الاحتراب»، ثم ذهب مرسي بقراراته المعروفة في موضوع الجيش حيث كان المجلس العسكري يستأثر بكل السلطات حتى التشريعية بعد أن حلّ القضاء البرلمان. وإذا كان موضوع التغييرات على مستوى الجيش قد مرّ فإن ما لم يمرّ هو قراراته الأخيرة التي أعطى فيها لنفسه كرئيس جمهورية صلاحيات واسعة بما في ذلك إقالة النائب العام ورغم أن تعيينه يتمّ من قبل رئيس الجمهورية وقد عيّنه مبارك إلا أن لا أحد يمتلك صلاحية إقالته ولا يمكن استبداله إلا إذا استقال هو أو توفي أنذاك يمكن لرئيس الجمهورية تعيين نائب عام آخر. رأت المعارضة في قرارات د. مرسي الأخيرة تكريسا لدكتاتورية جديدة، ورفضت المعارضة التصويت الشعبي على الدستور الجديد وركب العناد كل الأطراف.
وبدأ التحشيد والاعتصامات ودارت عجلة الرعب وأخذ أبناء الشعب الواحد يقتلون بعضهم في أجندات حزبية، وكأن ما نراه يريد أن يوصل لدول الربيع العربي رسالة بأن مصير ثوراتكم تقاتل بين من أطاحوا بالدكتاتوريات، رفاق الأمس وأعداء اليوم حيث الصراع على السلطة قد بلغ ذرى غير متوقعة. كأن ما يجري في مصر إنذار من أعداء الشعوب العربية يقول لهم لقد أطحتم بدكتاتورياتكم ولن نترككم في هدوء، لن نسلم لكم بالأمر الواقع ولن نترك ثوراتكم تمضي نحو تحقيق الأهداف التي جاءت من أجلها. حمى اللّه مصر، حمى اللّه العرب.