خفقةُ جناح الفراشة التونسيّة التي تداعت لها بقيّة أحجار الدومينو العربيّة منذ 17 ديسمبر 2010 لم تستشر أحدًا ولم تنتظر قيادة. ترجمت ما تراكم من أعمال مثقّفيها ومبدعيها ومناضليها من نساء ورجال إلى طاقة حيويّة وتوهّجت في اللحظة المناسبة وصنعت أسطورتها المؤسِّسة وأطاحت بطُغاتها ثمّ تركت للسياسيّين أن يواصلوا المهمّة. وتلك هي المشكلة. لم يكن بعض هؤلاء مغايرًا في جوهره لمن سبقه. ولم يكن بعضهم الآخر قد تغيّر بما فيه الكفاية كي يقود المرحلة بما يكفي من رؤى وأساليب مغايرة. وتمّ إقصاء المثقّفين الأكثر استقلاليّة والأبعد نظرًا، كي لا يفضحوا الصورة:
صورة النخبة السياسيّة الحاكمة وهي تنقسم إلى مهاجرين وأنصار وحُلَفاء من المؤلّفة قلوبهم يتناهشون الغنيمة ويحاولون احتكار القوامة عليها بدايةً من التسمية وصولاً إلى الرغبة في جعل وصولهم إلى الحكم نقطة نهاية الثورة.
نحن الثورة وكلّ ما عدانا ثورة مضادّة. نحن الثورة وما دمنا نحكم فإنّ كلّ تمادٍ في الحراك الثوريّ هو ثورة مضادّة. هكذا يقولون. دون أن ينتبهوا إلى أنّ الثورة ملك نفسها وأنّ لحظة نهايتها ملك الشعب الذي حدّد نقطة بدايتها.
سنتان انقضتا منذ خفقة جناح فراشتنا الملتهبة. سنتان من الفرح المؤجّل، ولا شاغل لهؤلاء غير توزيع ديبلومات الثوريّة واللاثوريّة، في يقين متبجّح، إلاّ فيما ندر، كي لا نعمّم، دون أن يتواضعوا بما يكفي للاعتراف بفرصةٍ ثوريّة غير نمطيّة قد تتمخّض عمّا هو غير مسبوق.
سنتان وهم منشغلون عن مواطنيهم مشغولون بالتسميات لإعادة كتابة التاريخ كلٌّ على هواه وعلى قياسه. دون أن ينتبهوا إلى أنّ في التسمية ما هو عبء على المسمّى، وأنّ الحدث الذي قام بنفسه يريد تسمية نفسه بنفسه قطعًا مع السلالة.
في قصّة «خليفة الأقرع» صوّر لنا البشير خريّف تراجيديا فتى يسمح له الرجال بدخول بيوتهم لأنّه في نظرهم أقرع أي لا خوف منه على نسائهم. ثمّ نبت له شعر فأُوصدت أمامه الأبواب فإذا هو يطلب استعادة «قَرَعِهِ» أي استعادة «رمز خصائه». تلك هي الرغبة الكامنة في خطاب الكثيرين الذين يتعجّلون اليوم إطفاء الثورة ويعتبرون شرعيّتهم الانتخابيّة علامة على نهايتها. ينبتُ للشعوب «شَعْر» أي ثورات فيحرص هؤلاء على اقتلاعه. يريدونها شعوبًا قرعاء أي مخصيّة كي لا يُخشى جانبُها!
على امتداد السنتين المنصرمتين تفاقم الاستقطاب الحاصل بين التيّار المدنيّ بألوانه الليبيراليّة والعلمانيّة واليساريّة والقوميّة من جهة، والتيّار الإسلامويّ الإخوانيّ السلفيّ الدعويّ أو الجهاديّ من الجهة الأخرى..
ولو اقتصر الأمر على صراع سياسيّ بين معسكرين لقُدِر عليه. لكنّنا أمام اختلال بنيويّ عميق في نسيج مجتمعاتنا، نتيجة الأسئلة الاستيهاميّة والحلول الإيهاميّة التي برع في حبْكِ خيوطها النظام العربيّ ككلّ، بعلمانيّته المزيّفة المدجّجة بالعسكر أحيانًا وبفاشيّته المتنكّرة في زيّ مدنيّ أحيانًا أخرى.
ولعلّ أخطر ما كشفت عنه السنتان المنقضيتان: صعوبة التمييز في الجوهر بين المعسكرين، حين يسود تفعيل الذاكرة على حساب الخيال، وحين تدور السياسة من خلف أقنعة كرنفاليّة، وحين تصبح السلطة هدفًا في ذاتها، من أجله يَتَعلْمَنُ الإسلاميّ ويتأسْلَمُ العلمانيّ، مشتركين في توجيه المستقبل إلى الماضي، أي مشتركين في جوهر السلفيّة.
أعود هنا إلى استحضار روايته «بلاد الكرنفال» حيث يؤكّد آمادو على لسان إحدى الشخصيّات أنّه من المستحيل اليوم كتابة قصّة جديدة عن الكرنفال. «ما يُكتب هو دائمًا نفس القصّة. أب يمنح ابنته كامل الحريّة، وفي الكرنفال يتنكّر في زيٍّ جذّاب ويقابل فتاة متنكّرة فيصطحبها إلى غرفة وهناك يكتشف انّها ابنته. من الممكن طبعًا استبدال الفتاة بالزوجة أو الأخت أو الجدّة ولكنّها دائمًا نفس القصّة...»
في سياق الراهن التونسيّ تحديدًا يمكن استبدال الفتاة بالثورة أو بالنخبة السياسيّة التي يظنّها المواطن حقًّا وحريّة وعدالةً وكرامةً فإذا هي في بعض الأحيان ردّة ونكوص وفي أحيان أخرى مقايضة للخبز بالهويّة أو مساومة على الحريّة بالخبز.
هذه المقايضة وهذه المساومة قناعان من أقنعة الكرنفال السياسيّ المزمن. وهما علامتان على الاستبداد وذهنيّته السرطانيّة المترسّخة. وليس من شكٍّ في أنّ عبور محنة الكرنفال يحتاج إلى وعي أكبر بأنّ الاستبداد وذهنيّته هما الخطر الحقيقيّ الذي يتهدّد مستقبلنا، ويشدّها دائمًا إلى الخلف، سواء في اتّجاه خلافة سادسة أو في اتّجاه ديمقراطيّة بلا مضمون.