شاهدت على شاشة جمهورية ال«فايس بوك» الديمقراطية, وهي الجمهورية الديمقراطية الوحيدة في الوطن العربي التي مكنت آلاف إن لم أقل ملايين الأفراد – ولا أقول المواطنين – من التعبير بحرية نسبية شريطا تونسيا يصور حكاية ذلك الشاب التونسي الذي يُدعى «أشرف» والذي يشتغل قابضا في إحدى البنوك التابعة لشركة بنك الدولي العربي لتونس والذي إعترف بسرقته لمبلغ من الأموال من مصرف البنك الذي يشتغل فيه وقام بتوزيعه على المواطنين الفقراء بل البؤساء في سيدي بوزيد, وهو في رأيي الحدث الأكثر فرجوية بعد هروب الجنرال المخلوع واختلاسه لأموال الناس. ولا شك أن الفعل الذي قام به هذا الموظف البنكي الشّاب كان ربما يتنزّل ضمن الإستيهام le fantasme سلبيا كان أوإيجابيا , صحيّا كان أومرضيا, خليقا أوبذيئا, أي ذاك الاستيهام الذي سبّبه ذلك الاستعراض الفرجوي الأخير الكاريكاتوري والسّاذج للأموال العمومية المنهوبة في خزائن الجنرال المخلوع كما ورد على شاشة قناتنا التلفزيونية اللاوطنية. تلك السّرقة التي حاول الإعلام التونسي تلطيفها بالإحالة على المرجعية ألف ليلة وليلة بتعبير تبنته لجنة تقصي الفسّاد : الإطلالة على كهف زين العابدين بن علي بابا. كان التلفزيون التونسي الذي لم يتخلص بعد من سحره البنفسجي قد أعطى كلمة السر الخرافية « إفتح يا سمسم» لهذا الإستيهام ليقوم بدور استعراضي لأيديولوجيا الشّفافية للحكومة المؤقتة لعملها منذ سقوط الطاغية, ويحرّر مارد الاستيهام الشّعبوي من قمقمه في ضرورة الإرجاع الفوري لأموال الشعب المنهوبة للشعب, وتشغيل آلاف آلاف العاطلين وغيرها من غنائم الاستحقاق الجماعي الذي تعد بها الحكومة كسراب إشهاري لا يقل عن الابتزاز العاطفي المتبادل بين الحكومة ومواطنيها... وبهذه الطريقة يتم بشكل ما إطالة عمر الخرافة ما دام الرّهان الأساسي بالنسبة للحكومة المؤقتة تجاه الشّعب السّرمدي محمولا على تشويق صياح الديك كل صباح. وفي ظل هذه اللعبة الإباحية التي لا يملك فيها أي طرف القول الفصل لا الحكومة ولا الشعب وضمن هذا الإرتجال في الأقوال والأفعال كنتيجة لثورة مباغتة يلعب الإعلام والاتصال بكل أنواعه أوراقه كلها على صفيح ساخن. وينفلت الكرنفال الفرجوي ليسمح بمزيد من الانفلات والتجاوزات التي نشاهدها كل لحظة باسم الثورة بوصفها مناخا إباحيا يتم فيه هتك كل ما يمكن هتكه والإطاحة بكل ما هوقائم إلى درجة أن الثورة لم تعد ذلك الحدث المفصلي الذي من الواجب أن يحقق تحوّلات حقيقية على مستوى الواقع بل مجرد استيهام تتجاور فيه الإيروس بالموت ويتعانق فيه العنف بالجنون بمعنى أن تكون الثورة قد أنجبت فقط الفوضى والخراب. ونعتقد في هذا الإطار أن وسائل الأعلام التونسية وخاصة المرئية منها كان طرفا أساسيا في هذه الفوضى وفي هذا الإستيهام القاتل لأنها لم تكن إلى حدود إلى حدود هذه اللحظة قادرة على التخلص من أساليبها القديمة في التعامل مع الخبر والمعلومة ولم تكن قادرة على القيام بالدور الصحيح التوعوي في تكريس مطالب الثورة التونسية على المستوى السياسي والاجتماعي والأخلاقي والثقافي, بل أنها انساقت دون تخطيط ودون الإتكاء على مرجعية واضحة في مسايرة هذه الفوضى من خلال غيابها في المواقع الحقيقة التي تصنع فيها الثورة سواء على مستوى النخب أوعلى مستوى القاعدة الشعبية إلى جانب كونها – أي وسائل الإعلام – قد تألقت بشكل واضح في إبراز ضعفها وارتجالها. وضمن هذا الفوضى الإستيهامية التي تسببت فيها وسائل الإعلام التونسية وخاصة المرئية منها تسلل البعض معوّلا على الشبكة الاجتماعية الافتراضية ليمارس فوضاه كما شاء, وليلعب دور البطل المخلص, أو دور السارق الشريف زمن الصعاليك الذي ينهب أموال غيره ليحقق العدالة الإجتماعية أوالعدالة الإلهية كما هوحال موظف مكتب الصّرف في البنك الذي أخذ أموال غيره ووزّعها على الناس في سيدي بوزيد وقدم نفسه في صورة «روبن هوود» أو عمر بن الخطاب يطلع على أحوال الناس ويمنحهم مال غيره في حين كان بإمكان هذا الموظف الشاب أن يقوم بفعل أكثر تحضرا وأكثر ثورية في الانخراط في مقاومة الفساد في القطاع المالي والبنكي ودور هذا القطاع طوال زمن الجنرال بن علي في التمييز بين الناس وفي تسهيل نهب أموال الشعب. ونرى أنه فعل استعراض هذا الفعل بالشكل الدعائي على شاشة جمهورية ال«فايس بوك» أخطر من السرقة نفسها, لأنه دعاية مرة أخرى للفوضى والانفلات أكثر منه التخفيف من معاناة الناس الفقراء في سيدي بوزيد... فكم نحن في حاجة إلى الخروج من الزمن البطولي والخرافي ومن متاهات الخرافة القاتلة في ألف ليلة وليلة... كم نحن في حاجة إلى الخروج من «الفانتسمات» القاتلة.